النقيب.....



بقلم: سمير سالم داود


طوال ساعات الرحلة صوب بغداد، ما كان يشغل ذهنه، بعد عقود الغياب قسرا، غير هاجس البحث عن مناسب السبيل، للتعبير عن مشاعره، لحظة أن تطأ قدماه، أرض الحلم من المدينة.

هذا الغريب من مشاعر الحيرة، ما كانت تراوده قط في الماضي،  يوم كان وقبل سقوط التمثال في الفردوس، يرفض وبعناد العاشق،أن يكون المنفى، بديل الوطن،

كان وجع نزيف صوت فؤاد سالم، يقوده مرغما وفي كل مرة ،للبكاء حتى قبل أن يعمر الطاسه بالمقسوم من الزقنبوت, ولكن بعد المضاف من عقد الخراب،راح وبالتدريج يضمحل رصيد المقيم من الحنين، حتى بات ساعة العودة، لا يدري أن كان يستوجب تقبيل الكّاع فور مغادرة الطائرة، أو يغصب روحه ويذب جم دمعه، كما يفعلون في البائس من هندي الأفلام.

كان لا يزال في موقع المحتار، عاجزا عن حسم أمره، حين تبدد كل شيء فجأة عند الدخول لصالة المطار. شاهد علم صدام مفلكح بعهره على الجدار، كما لو كان لا يستحق بعد غياب ما يزيد عن ثلاثة عقود من الزمن ، غير هذا المزري من صفيق الاستقبال.

خجلا توارت الباقي من مشاعر الحنين . وقف صامتا دون حراك، يحدق بحضيض العلم، إلا أن تحول ومن فرط  قرف التركيز، لما هو قرين، حلكّ جايف، مرهول، لا يجيد غير العفاط،،مناسب التحية، للأغبياء من أهل الحماقة.

كان يكره علم صدام. مشهده بعد أن ظل مرفوعا بعاره، شاهدا على بشع ما مضى وخراب الحاضر، بات عنده مدعاة للقرف والغثيان. تلقائيا كان يكتم أنفاس التلفزيون، صوت وصورة، كلما طفح على الشاشة، يبول منتشيا على رؤوس من جاء دورهم للجلوس بخنوع تحت بسطال رايته، وهم يرددون بنشوة فروخ جوه الجسر : إي فدوه ...بول بعد...بول.

لم يشاهد علم أبو بوله، بشكل مباشر وللمرة الأولى ،إلا حين ذهب برفقة الدكتور عبد الخلف الأمريكي ( تلك كانت كنيته الشائعة) لاستلام ما يحتاج من وثائق السفر، ساعة شاهده وقبل أن يجتاز باب السفارة، مكنّبص يزرب فوق المبنى، كما لو كان لقلق دوني وعنده إسهال مزمن.

شوف ...شوف. صرخ يوم ذاك مشيرا بيده لما يجري وعلنا من الفضيحة.

صدكّ لو كّالوا خيال الشاعر ....خبآل. عقب عبد الخلف بود المزعوم من الصاحب والصديق قبل أن يضيف وبدهاء الخبث: مو عيب عليك تخللي عقلك ويه خركّة علم ... إلا إذا تريد أدورلك على حجة جديدة حتى لا تروح وتحقق حلمك كّبل ما تموت،

لم يعقب. ظل مشدود البصر لمعيب فعل اللقلق فوق سطح السفارة.

ظليت أتكّول ما أروح مادام بسطال الاحتلال هو السلطان، هسه شنو حجتكّ ، اللي أتسميه احتلال مو تحرير... انتهى ووقعوا الاتفاقية، شتريد بعد أكثر. عاد عبد الخلف للقول وهو يجره للدخول للسفارة قبل أن يلوذ بالفرار، ويتركه يقف مشدوها أمام مشهد صدام وهو يشطف طيزه على ميز القنصل بأوراق الموعود من الجنسية وجواز السفر. 

في الشاذ من تلك اللحظة، قرر ومن غير تردد، أن يبول على العلم والقنصل والجنسية والجواز. وكان على وشك أن يجر سحاب البطلون، حين داهمته رغبة ملحة للتقيؤ. لا. تمنى، أن يغركّ الغرفة بالزواع، للشطب متقيئا على فكرة السفر، ولكن لسبب مجهول، عجز عن التبول، وما تدفق ما ينتظر من ملح القيء.

لحظة أن استدار قاصدا الهروب من المرحاض، أسرع القنصل وبمهارة لاعب سيرك، يسد حلك الباب، بالوسخ من جثته، مرتديا وداعة من تعلم في معهد الصحاف، فنون ذبح العدو من دون سكين، وهو يدعوه بإلحاح ود الخبيث للبقاء ، مكررا على مسامعه ما يرضي غروره من الإطراء على ما ينشره من القصائد، إلا أن قاده في النهاية للجلوس على مقعد صغير، لا يرتفع إلا قليلا عن الأرض، كما لو كان يريد عامدا أن لا يرى غير موضع قنادره، وهو يثرثر عما يملك من طويل الخبرة في السلك الدبلوماسي، متباهيا بعدم مغادرة ما سماه  أرض الوطن إلا عند تنفيذ الخاص من المهمات في الخارج.

ردد كل ذلك على عجل وبإيجاز من يريد القول وبسطوة النذل : لا يروح فكرك بعيد وتعتقد غلطان... تغير الحال، مشيرا بالبصر للوسخ من خركّة زبالة العوجة التي تعمد سيده كتابة أسم الله عليها ، سفاهة وتجارة، ليكون ساترا وسترا، لبشاعات من فقدوا همجي السطوة، وقباحات فساد من ورثوا عار السلطان، دون مبالاة بحال المسكين من الرب الذي ظل محصورا حيث كان، وهو الذي كان يعتقد جاهلا، أن سقوط الطاغية، سوف يحرره من محنة العيش وسط الحيض والحضيض، وما كان يدري لفرط السذاجة، أن اللي آجوا الله والدين عندهم قبغلي ....مدآس للرجٌل وعمامة للرآس.

******

مو عيب عليك تخللي عقلك ويه خركّة علم. عاد عبد الخلف الأمريكي يصيح براسه من جديد وهو يجره دون رفق بعيدا عن المفلكح دون حياء على جدار صالة المطار، ولم يتركه إلا في موقف انتظار سيارات الأجرة.

والله عرفت . فاجأه السائق بالقول خائبا، فور أن عرف فقير مقصود العنوان.

لم يعقب. تجاهله ممتعضا من صفاقته.

إستاد لا تزعل. كل الناس على الراس والعين. بس والله هذا حرام. قال السائق قبل أن يضيف وبنقمة: شوفهم (مشيرا بيده لمن يشرفون على حركة السيارات) الركاب الرايحين للمنصور وغيرها من المنطلق الراقية، واللي ما يدفعون إلا بالأخضر، ما يصعدوهم إلا بسيارات ربعهم وحصتهم مضمونه من المعلوم.

لم يعقب. واصل الصمت رغم المثير من الملاحظة.

عصابات ...رشوة وكّواده ...راح أتشوفهم وين ما تروح . عاد للقول وبذات القدر من النقمة.

كان يفكر وبفضول السؤال عن كيف يجري هذا التمييز علنا وتحت سمع وبصر الجميع حين عاد السائق للقول وبغضب: كيفلك الله وعباده ...كلهم جانوا جلاب زيتوني من ربع الله يخللي الريس...وبس طاح الصنم ...صاروا وبحجة اللطم يهزون الجتف والطيز...على ها... يا حسين ومصابه. ردد ذلك ساخرا قبل أن يتساءل فجأة : يخليك الله إستاد خو ما شيل بالجنطة ممنوعات.     

لا ...بس نسخ من دواوين شعري. رد متباهيا.

هم زين ....ما دام حضرتك من ربع بيش كيلو ...إنشاء الله ما نطول بالسيطرات. قال دون أن يوضح ما يقصده بالقول (ربع بيش كيلو) قبل أن يضيف بمرارة: كل خطوة تفتيش وإهانات بحجة حماية الأمن ( نطقها بتفخيم ساخرا) وسيارات الطكاكات تركض وره الناس من شارع... لشارع ... وجنها أبدا ما تمر على السيطرات ...لو مكتوب عليها ممنوع التفتيش شرعا...أو من يدري ...يمكن الدوني عزرائيل ينزلها من السما مخصوص بس على ولد الخايبه. قال وهو يواصل محاصرته بالنقمة ودخان المتكرر من السجائر وعلى فد جره.

سياحة لو جاي تموت بأرض وطني حبيبي؟ عاد للسؤال وهو يتعمد ساخرا مط ( وطني) قدر ما استطاع، قبل أن يضيف وبذات القدر من الاستهانة:  كّولي بره ما عندكم كّاع للكّبور؟ تساءل بميانه وكما لو كان في موقع القريب من الصديق.

لا ...بره اللي يموت يشمروه بالبحر، لو يحركّوه ويخلصون من شره فدنوب. رد بشيء من الغضب.

إستاد لا تزعل ...تره والله دا أشاقه. أسرع السائق للقول معتذرا بلباقة.

أدري.  عقب وهو يلتفت مشدود البصر والذهن لبؤس الشاخص على جانبي الطريق من معالم الخراب والقاذورات كلما ابتعدت السيارة عن المطار وعلى نحو يفضح مدى كراهية أهل فساد السلطان للعمار والنظافة.

***************

- يعني رجعت مثل ما رحت، إيد من وره، وإيد من كّدام. قال أبن عمه ( هكذا زعم) بصفاقة خيبة الأمل، بعد أن شارك في استقباله بالأحضان وذرف الدموع، قبل أن يتغير موقفه للنقيض تماما، شأن جميع من وجدهم بانتظاره في البيت، حال معرفتهم أن عودته لا تتعلق، كما كانوا يتمنون، احتلال وظيفة مرموقة، تساعدهم على أن يصبحوا بدورهم من أهل الثراء والجاه، ولا يزال كما كان واحد فكّر، لا يملك ما يطشه عليهم من أخضر المال، وخالي الوفاض حتى من الهدايا، وحدود زيارته لا تتعدى غير أن يشوفهم وينجز معاملة التقاعد.

كان لا يزال مذهولا لسرعة تحولهم من موقف لنقيضه، دون أدنى شعورا بالحياء والخجل، حين أضاف أحدهم ساخرا: إذا على سالفة شوفتنه ...جنه نكّدر نتشووف بالسكايب... ومن طرف معاملة التقاعد، عليمن تعبت روحك وتعنيت السفر... جان تكّدر أتسووي وكّالة ... ونمشيلكيها بجم ورقة ..ولعلمك فروخ صدام اللي ودهم لجوء بره بعد الحصار، صاروا وبفضل أصحابهم اللي ظلوا وصاروا من أهل العمايم ...يسوون كل اللي يريدوه وزياده... بالتليفون.

- تدرون جم كتاب طلعت بره. قال محاولا إثارة اهتمامهم وهو يضع أمامهم نسخا مما أصدره من دواوين الشعر وكان على وشك الحديث عن ما يحتله من متميز المكانة بين أهل الثقافة والإعلام، حين قاطعه أحدهم وهو يقلب صفحات أحد دواوينه دون مبالاة : بعدك من ربع بيش كيلو تكتب ...متعبت ...لو متدري ....هاي شغلة الكتابة والشعر...أبد ما توكّل خبز.....وخاف ما تعرف ...اليوم صار شعيط ومعيط يزربون قصايد ليل نهار... لو  يشتغلون مجاريه بالجرايد ومواقع الانترنيت ...والحلوين والحلوات منهم يكّودون بالفضائيات. ردد ذلك بضجر وهو يشمر ما بيده على الميز بازدراء مفضوح.

- بس مو كل أصابعكم سوه. ما أن تورط بالرد لتأكيد تمايزه في الوسط الثقافي، حتى انطلقوا يسخرون من حكاية الأصابع اللي مو سوه، مرددين سخافات تبدأ بعبارة : يكّولك أكو واحد أصابعه...منطلقا للضحك وبصخب على ما يرددون من مقرف مزعوم الطرائف.

- منو منكم يريد يجي لعندي حتى أسوويله دعوة. قال من موقع الكذاب مرغما، للخلاص من حصار سخريتهم وطمعا باستجداء رخيص ودهم.

- آني أستاد. صرخ الجميع وبصوت واحد وهم يرتدون من جديد مزيف قناع الود، متنافسين  وبعهر التملق على مخاطبته باحترام من صار عندهم وفجأة في موقع الرب ، وأن نطق يتطوعون لقمع بعضهم.. البعض بالقول : أنجب... خللي نسمع الاستاد شيكّول، قبل أن ينهمكوا في تقليب صفحات ما كان عندهم قبل المعدود من الدقائق مثارا السخرية والازدراء، مكررين وبالسره رخيص القول: أبن عمي والله أنت تاج راسنا وفخر العشيرة، دون أن يعرف كيف صار هو الأخر عنده عشيرة وفكره يناقض تحويل البشر لما هو قرين القطيع من الجاموس.

تدريجيا،ما عاد يصغي لما يرددون من الثرثرة. صامتا ظل يتابع صخبهم وهم يواصلون نهيقهم لكسب اهتمامه وبقصد ضمان تصدرهم قائمة من سيدعوهم للنعيم، وكل منهم ينافس سواه على تأكيد أحقيته بالفوز بهذه الفرصة وقبل غيره، باعتباره من ولد العم من صدك،ّ وهو ما كان عنده، غير عم عقيم، مات، قبل أن يهرب ومبكرا من الجحيم .

كان يدرك وقبل أن يعود، مصايب ما حدث من بشع الانقلاب في طباع الناس. أكتشف هذا المر من الحقيقة، يوم تدفق الألوف للخارج بعد الحصار، ولكن ظل وبعناد الوهم، يرفض التعامل مع مسوخ القمع والحرب،كما لو كانوا القياس والمقايس، مشدودا بحبال المقيم من الود، لمن ظلوا وسطهم، في موقع الأصيل من الناس.

- لك أنتوا شنوا الله خالقكم...شوادي. فكر أن يصرخ لقمع ضجيجهم، والمفضوح من رخيص تملقهم، ولكن عوضا عن ذلك ،عاد يستنجد ومن جديد، بسالفة الأصابع اللي مو سووه، مرغما متعب الذهن على الرضوخ وغصبا، لوهم الاعتقاد أن من يقف في مواجهتهم، لا يمثلون غير الشواذ من الناس، وأن هناك حتما، الكثير من أبو تحسين،وسط من ظلوا في الجحيم.

هذوله منو ...همس في أذن شقيقته متسائلا بينما كانوا يتصايحون وهم يكررون أغلظ الحلفان والتهديد بتطليق نسوانهم، لحسم أمر من منهم، سيحضى بشرف شرف عزيمته على العشاء،

بعد أن كانوا والى ما قبل معدود الدقائق، يتطلعون نحوه باستصغار ودون مبالاة، وهم يمطون شفاههم، ازدراء بما يردده من القول.

يمكن جهال ...جهال ولد عماتك ...ولا واحد منهم جان يمر يسأل جذب إذا محتاجه شي شياتين ...وبس سمعوا بخبر جيتك صاروا خري مري ...وعلى غفلة صرت عمتهم وخالتهم وس باقي يكّولون آني اللي رضعتهم ..... داده لا تعب روحك وتفكر... بزمانكم جانت الشوادي محصورة بالزوراء ...واليوم ....شوفت عينك ...صارت زوراء وين ما تروح. قالت بسخريتها المعهودة يوم كانت تلاحق الشارد والورد بالتصنيف.

شفتهم – عادت للقول - واحدهم شبر ونص ومن عمر ولدك ويحجون وياك وجهنهم يعرفوك من صغرك... أكيد بعد ما بحوشوا وراك بالانترنيت وسألوا عنك اللي يعرفوك ..ومقصدهم يعصروك.... فلوس ومصلحة.... وإذا ما تفيدهم وما يستفيدون منك ...عانه ما تسووه عندهم ...مثل ما كتلك....ّ شوادي ومن أتكّولهم عيب ...يضحكون عليك.    

لازم أطلع أشتم شوية هوا ... راح آختنك ... ،ومن أرجع أتمنى ما أشوفهم....إذا سألوا... كّلليهم نام من التعب. قال بعد أن امتطاه الغثيان وما عاد بمقدوره أن يتحمل كل هذا القدر من رذيل النفاق.

صدك أنت بطران ...بس أكّول هيجي كل واحد منهم راح يخلق عشرين عذر حتى ما يروح للبيت ويجودر عنده الليلة... بعد ما صرت عندهم العزيز الغالي وصاروا عندك وحشه كّدرك ...قنادر.

لعد ...كّولليهم  راح للفندق...عنده دعوه يقره شعر وخاف إذا يظل هنا ... ما يلحكّ من كثر الازدحام....وإذا سألوا وين... كّوللي بالزوراء. قال ذلك ضاحكا.

أنت شنو سالفتك ...جنك صاير هندي ... إذا أكّول بحديقة الحيوانات شراح يخلصك من ملحتهم... بعد ما يعرفون عندك دعوه تقره قصيدة بالبرلمان.

شنو تساءل بدهشة وهو يغادر البيت متسللا دون أن يستوعب مغزى العلاقة بين البرلمان والزوراء إلا بعد أن وصل لنهاية العكّد وعندها عاد يضحك طفلا، كما اعتاد أن يفعل في ماضي الزمان، يوم تعلم من ساخر تعليقاتها، المبكر من فنون الهجاء، بعد صارت اختصاص بعلم التصنيف على الشوادي ومن كان يزعل منهم بعد أن يصير مضحكة، كانت تسرع للقول ومن دون تردد : بعد أحسن ...لا أرى القرد ولا القرد يراني، كما قال عباس بن فرناس ...ولقطع الطريق على من يفكرون السؤال عن هذا العباس، كانت توضح وبمنتهى الجد: هذا الاثول اللي لبس ريش وراد يطير وأنكسرت ركّبته, وبالطبع ما كان هناك من يتجرأ للسؤال عن مغزى إقحام هذا اللي راد يصير طير في الحديث عن الشوادي.        

مع ما تبقى من باهت ضوء النهار، أسرع يحث الخطى صوب الأثير من مواقع الصبا والشباب، كما لو ما عاد في المرير من تلك اللحظة، لا يملك من الخيار  غير أن يلوذ بجميل ماضي الذكريات كما أعتاد أن يفعل، كلما غمره الحزن، بعد أن طال وجع انتظار نهاية الآيل للسقوط، ولم يتوقف عن تعاطي هذا المناسب من الدواء، إلا بعد أن تلاشت تماما من ذهنه، معالم الحي والكثير من الذكريات، يوم بلغه خبر مقتل صديق العمر حسان في الحرب، بينما كان لا يزال يحاول معرفة سبب عودته بعد أن هرب بدوره مبكرا ونجح في الوصول لبلغاريا الحب والحلم، كما كانت تسمى في ذلك الغابر من الزمن.

فجأة ومع أول خطوة في شارع مدرسة البنات، بدأ ذهنه ووسط دهشته، يستعيد وبسرعة غريبة كل شيء عن ما ظنه قد اختفى نهائيا من الذاكرة ، كما لو أن معالم المختلف من زوايا الحي وماضي الذكريات، كانت تختبئ عمدا في إحدى زوايا الذاكرة، بانتظار الطلوع في المناسب من اللحظة.

بوضوح تذكر دكان زهيان، الهارب من جور الإقطاع، والذي كان لا يبيع غير العلج ودوه حمام للنسوان. مقهى الكريه أبو غني صاحب الوحيد من جهاز التلفزيون، والذي كان يرغم زبائنه على تكرار طلباتهم من الشاي أو الحامض ، لحظة مباشرة عرض مسلسل الضحية أو نزلات كلاي وغير ذلك من أثير عروض الجهاز الغريب في ذلك الزمان.

عند عكّد نخلة أم تلث رووس، تسمرت قدماه وهو يحدق بحزن صوب مشهد الباقي من جثة النخلة بعد أن فقدت أثنين ولم يبقى غير ثالث آيل للسقوط ، وهي التي كانت على الدوام، تنتصب بشموخ، جعلها مثارا للعجب عند جميع سكان المجاور من الأحياء، وأرغم حتى عمال الطرق على عدم إزالتها، ساعة تبليط شوارع الحي بعد ثورة الزعيم.   

كانت أم تلث رووس تقع مقابل بيت حسان ولصق بيت صبار، الذي صار وعلى غفلة يدعى صبارتكوس، بعد أن راح يشيع فور عرض فلم محرر العبيد، أن سبارتكوس كان يدعى بالأساس صبار، كما لو كان المسكين يريد تجاوز مشكلة ضئيل جسده كلش، بعد أن خلقه الله على عجل، لحظة ما كان منهمكا في حل مشاكل المكافش بين بعض البرابيك من نسوان الفردوس، وفقا تصورات غالب البصراوي، هذا قبل أن تنتهي أسطورة صبارتكوس بفضيحة ما حدث يوم تزوج وحده تخبٌل من بنات العشيرة، آخذت بوشه في ليلة الدخله، ساعة هرب عاريا وهي تطارده بنعالها الشطراوي، بينما كان الجميع ينتظرون أن يطلع الفحل وبيده الجفيه الحمره، بعد أن شكّوا طيزه بالبعابيص لمساعدته في إنجاز مهمته بساع وبدون تأخير.   

حين التفت صوب بيت حسان راح يتذكر وقائع عالم بنات المتوسطة، وكيف كان في أيام المراهقة مع الباقي من شلة المعقدين ( لتفوقهم بالدراسة وولعهم بالمطالعة)  يتجمعون في بيت حسان المطل على ساحة المدرسة، لمراقبة البنات خلال دقائق الفرصة، مؤنة للإثارة، ساعة ممارسة السري من العادة في الحمام، هذا قبل أن يتغير اتجاه البصر بعد أن صارت زوجة صبارتكوس ، تتعمد كل يوم شطف الطرمة، كما لو كانت تجد متعة لا تضاهي، وهي تعرض وببراعة هند رستم، المغري من تقاطيع جسدها، ليكون مستباحا لشبق عيون وما بين سيقان من يتابعون مثير العرض من فوك السطح.

في تلك اللحظة تذكر فجأة ما حدث يوم ما عاد يتحمل المثير جنسيا من العرض، و بلغ من هيجان الإثارة حد التفكير بتسلق النخلة للقفز لداخل بيت صبارتكوس، بقصد مضاجعتها أو مجرد يكمكش صدرها، لولا أن حسان صرخ يحذره بالقول: كل عقلك تنال مرادك ...لك هاي شطراوية ..واللعب بالنعال عندهم ومن زمان حمورابي عادة....  لو ما سمع: نعال أهل الشطرة  يكّص الركّبة...بعدين شيخلصك من أبو هيج وهيج، تلك باتت الشائع من كنية صبارتكوس بعد أن صار شرطي مرور.

في فرح لحظات استعادة طريف ماضي الذكريات، تمنى لو أن حسان لا يزال على قيد الحياة، ليشاطره متعة استذكار أيام شلتهم الصغيرة ومنذ أن جمعتهم مصادفة مقاعد الدراسة الابتدائية ومن ثم المتوسطة قبل أن تتوطد علاقاتهم في المرحلة الثانوية لموقع القريب من الصاحب والصديق بعد أن بات يجمعهم مشترك الفكر، ليظلوا بعد ذلك وحتى بعد التخرج من الجامعة والتوزع بين المختلف من دوائر العمل، يمارسون وبانتظام اللقاء للسهر في بيت حسان أو للتحرك من هناك نحو الرشيد أو السعدون لمشاهدة إحدى الأفلام قبل أن تقودهم إقدامهم صوب الساحر من عالم السكران أبو نؤاس.  

وهو يستعيد فرح وسعادة ذكريات تلك الأيام، وعلى العكس مما كان يشتهي، عاد يغمره الحزن من جديد، قرر أن يعود أدراجه للبيت، كان على وشك أن يمضي مبتعدا، حين شاهد حسان يجلس شبحا عند عتبة البيت، ينفث مع الحسرات دخان سيجارته، محدقا نحوه بثبات فضول من يريد معرفة سر هذا الغريب الواقف جوه النخلة أم تلث رووس مع أخر ومضات ضوء النهار. 

فكر بالهروب مسرعا من المكان ولكن تسمرت قدماه حيث يقف، لحظة أن نهض شبح حسان وراح يتقدم باتجاهه مكررا : منو ....المتنبي؟! تلك كانت كنيته الشائعة لفرط ولعه بكتابة الشعر وتفرده بحفظ وترديد لقصائد المتنبي.

خبآل ...ردد وهو يحاول من جديد الفرار بعيدا عن شبح حسان.

......عاد الشبح يخاطبه هذه المرة بالصريح من اسمه، فيما كان يواصل التقدم نحوه ببطء جثة غادرت قبرها للتو .

من هول المفاجأة عجز عن النطق، راح يكرر تحريك رأسه للأعلى والأسفل، للرد بالإيجاب على السؤال .

- شجابك ورجعت بعد خراب البصرة ...لو جاي تبهذل روحك تالي العمر. قال وهو يعانقه قبل أن يقوده للجلوس جواره عند عتبة البيت، تماما كما كان الحال في الماضي من الزمن، فيما كان لا يزال عاجزا عن إدراك ما يجري.

- مم صدكّ مو ...أكيد عبالك مثل هوايه غيرك، داعيك مات بالحرب. قال حسان قبل أن يضيف : بس وينك ...اللي كّالوا أنكتلت ما كذبوا....إلا إذا جنت تعتقد ظل أحد عدل بين كل اللي شاركوا بالقادسية الكّشره...صدكّني بعد ثمن أسنين بحضن الموت ليل ..نهار ..حال اللي ظلوا عايشين مثل حال اللي ماتوا ويمكن آخره....وشوفت عينك ... صاحبك ينتظر أبن الكّحبة عزرائيل ..يحن عليٌه ...بس دوني وتعرفه من ربع الشيوعية كفر والحاد ...يطلع أروحنا بالأقساط ...قال من كان في الماضي، مفعما بالفرح ومضرب المثل في فرط الأناقة.

خوفا من أن تفضح ملامحه، مشاعر الحزن والشفقة على بقايا جثة ظلت على قيد الحياة بالصدفة أسرع للسؤال:  بس أريد أعرف ليش رجعت بعد ما طلعت. قال بحثا عن جواب ما ظل يراوده على الدوام من وجع السؤال.

ليش هو بس آني رجعت غصب. لو ما تعرف الدوني أبو نجم شكّد رجع من الربع بعد ما انهزموا، والحجه ما عندهم تزكية من أبو خالد. رد وهو يحاول دون جدوى أن يبتسم لهذا الساخر من التبرير قبل أن يعود للسؤال ومن جديد عما دعاه لحماقة العودة بعد خراب البصرة.

- جيت أشوف الباقي من اللي أسمهم أهلي وبطريقي أخلص معاملة التقاعد. رد مسرعا. 

- اللي أ‘عرفه من الأهل ما ظل عندك بس أخت... وجنت تكّدر أتشوفها مرتاح بكوردستان... وعيب تحجي بسالفة التقاعد، لو تعتقد أكو فرق من توكّف كّدام زبالة عفلقي... يريدك بالكّوة أتنح... أو كّدام دوني أبو عمامة زيتوني هم أيريدك اتنح، بس بعد ما يجبرك غصب تسمع أسطوانة الله يشآفيك ويهديك... وجنكّ ...حقير حشرة. قال بتأنيب وكما لو كان، ومن غير قصد، يقوده للمضاف من وجع الخيبة وفي أول ساعات العودة.

- منو يدري- عاد للقول -  ...بس لا رجعت مثل غيرك من الربع حتى أتشوف شصار بحالنه بعد الجسيرة، يوم صار القرار وعلى غفلة... دبر حالك رفيق، وره ما كشفوا أطيازتنا لجلاب البعث على أساس راح نمشي سووه أيد بأيد للكلجيه. قال بوجع النقمة وبنبرة لا تخلو من الصرامة وكما لو كان يحذره من مغبة التعقيب.

- وقعنا ... على التعهد ...بدل المرة...عشرة – قال مضيفا - وما عافونا بحالنه...لو تصير دوني زيتوني ...لو تموت بالسجن مشبوه أو تعيش مسجون وين ما تروح والصوفه حمره... وساعة ما شعلوا الحرب...  ودونه كّبل غيرنه للموت بالقادسية الكّشرة.

- عزيزي ...أكّلب صفحة ولا ظل مجلب بالماضي واللي صار. المهم والأساس.... الربع رجعوا والشغل ماشي... وأحمر علمنا يفتر بالشوارع. عقب دون قناعة ومن قبيل الشفقة على مشاعر جثة تزحف مع الخيبة صوب ما ينتظرها من مفتوح القبر.

- صدكّني هيجي جان ظني.... يوم رجعوا وفتحوا مقر الفردوس....بأول يوم رحت ركض لعندهم... أدور على جتف أبجي عليه ضيم ذل نص العمر ،وما جنت أدري ... أكّو بنصهم زنجار ...واحدهم يحجي مناضل.. والفعل أبو نجم دوني... أيدور أدواره على صنفه من اللوكّية بين اللي وكّعوا وصاروا جلاب بعثية... ومخصوص من أهل الولاية...وفوكّ درد الله ...فتحوا الباب لهواية من جلاب أهل الزيتوني... اللي صار المقر عندهم... مكة.. والمطلوب تزكية من أهل الوطنية ... والربع مثل ما تعرف كّلب سمجة من يومهم، ما صدكّوا تجيهم الجماهير ...أفواج ...أفواج... جم يوم... رفيق والدشداشة حمره ...وبعدين ...كّبل على أهل عمايم الحل والربط  ...وهذوله القشامر ...ما يصدكّون يجيهم شيوعي تايب ... شيوعي ..صدك ..جذب ما يهمهم... حتى لو جان قاضي دوني ما يعرف من الحكم غير كص آذن ولد الخايبه المهزومين من الحرب لو من أهل الانتفاضة. قال ناقما بغضب وعلى ملامحه ترتسم المكتوم من صرخات الخيبة .

والمصيبة – عاد يقول بغضب - كّبل ما الواحد يفتهم شنو الحسبه... الربع بساع نزعوا اللباس وكّعدوا بحض علاوي وجنهم خطيه صارت الشغلة عندهم ...إدمان . قال بوجع من يتمنى الموت ساعة كّبل، وباشمئزاز وقرف من ظلوا على قيد الحياة من ضحايا مجزرة أيد...بأيد... ، قبل أن يلوذ بالمطبق من الصمت، كما لو كان يريد اختصار أمد اللقاء، فرارا من وجع الذكريات ، أو يستحي من مباشر القول: مع السلامة.

***********

 

ما نام في تلك الليلة. ظل يتجرع قرف ما حدث من الانقلاب في طبائع من توهمهم الباقي من الأهل، ومرار فجيعة اللقاء مع من كان يعتقده قد مات، ووجده بقايا جثة تتوسل شاغر القبر، للخلاص من عذابات الإحباط والخيبة. 

حاول دون جدوى، لفرار من وجع ما حدث، ولكن في كل مرة، كان الكالح من وجوه المزعوم من ولد العم، ونحيب صديق العمر وهو يكرر على مسامعه : كل عقلك سيزيف بعد عدل وما مات، تقوده للمزيد من الغيض والغضب،  كما لو كان المطلوب، إرغامه على الاعتراف وبعد المعدود من الساعات بفداحة ما أرتكب من الحماقة. 

في تالي الليل وكان على وشك أن ينام على روحه من فرط التعب والإرهاق، عاد شبح حسان بمظهره الغريب وسط أخير ومضات الغروب، يعود للظهور جوار سريره، مثيرا في أعماقه بعد الخوف، الكثير من الأسى، كما لو كان يريد الإجهاز على ما تبقى في خاطره من ماضي جميل الذكريات، حتى تمنى ومن فرط الوجع، لو أن الأثير من الصديق، ما غادر قبره، وظل حيث كان في عالم الأموات.

- الله أكبر. فاجأه صوت ترديد آذان الفجر، ينطلق عبر مكبرات الصوت، ومن كل حدب وصوب، كما لو قد حان آوان قيام الساعة.
جانت عايزه . ردد بغضب وغيض وهو الذي كان يشده أيام زمان، الساحر من صوت سيد نجاح، ساعة يغرد في الفجر، داعيا الناس للصلاة، بوداعة ومن غير زجر، أو التهديد بعذاب نار جهنم الرب.   كان لا يملك وحسب صوتا ساحرا، يثير في النفس مشاعر الاطمئنان، وإنما كان مضرب المثل في الزهد والصدق، ويحضى بحب سائر أهل الحي، باستثناء ساقط العفالقة، ممن كان يغيضهم تكراره الدعوة ، تجنب الركض وراء وسخ الدنيا، يوم باشروا، بعد أن عادوا بعارهم، توظيف فلوس النفط لشراء الذمم بالرخيص من المغانم، وظل سيد نجاح ولسنوات عديدة، شوكة في عيونهم لغاية أن تمكنوا في النهاية من تحقيق سافل مسعاهم، ساعة إقدامهم على تصفيته جسديا مع الكثير غيره  من أهل الدعوة، بعد أن شاركوا في تلبية نداء من دعاهم بغباء من طهران، المجاهرة علنا في الجوامع ومن فوق السطوح، رفض الخضوع لحكم الجائر من السلطان، وهو الذي كان يمارس التقيه ببراعة، وكلما إلتقاه مصادفة، كان يكرر على مسامعه تلميحا بما يغني التصريح، ضرورة توخي الحذر من غدر العقارب، ويوم ذاك كان في كل مرة، لا يملك من متاح مزعوم الرد غير القول : والله سيد ندري، وفي سره يكرر ناقما: كّولله للافندي أبو خولة...الهمج كّصبوا ربعنه من البصرة للموصل وسجينتهم وصلت لبغداد، وبعده أبن الطراك يكّولّ : لازم نوكّف التدهور حتى نظل نمشي إيد ...بإيد تحت راية قيادة الحزب والثورة.

- ألللللللللله وأكبر. ....عاد يصغي مرغما لنهيق صرخات من يدعون الناس للصلاة بالمنكر من أصواتهم .

- ولد الطرك...ّ ما دام كّلكم تصيحون الله أكبر ..والعلم صدام، ليش ما تسووها محاصصة. ردد ذلك ضاحكا من طرافة الفكرة. من غير تأخير قرر أن يكتب لاحقا نصا ساخرا يدعو للتوافق طائفيا على رفع الآذان بالسره، حرصا على عدم إزعاج الناس، بكل هذا المتنافر من قبيح الأصوات، ومن منطلق فضح من يتنافسون على ترديد الله أكبر، بقصد إشاعة المزيد من الكراهية ضد المسكين من الرب، تجسيدا لفرط غيضهم من ترك الرابعة، الصغيرونه في الفراش، وهم الذين ما عاد يفيدهم نفعا، الفياغرا ولا فتايا القرضاوي المثيرة جنسيا، وينتظرون بشبق رذيل العمر، أن يستيقظ صاحبهم اضطرار في المبارك من مبكر الساعة عند طلوع الفجر.
- ليش أنتظر. ردد وهو يشعل الراقد جواره من جسد الشمعة، مباشرا الكتابة عن ضرورة شمول رفع الآذان بنظام التحاصص، كما لو كان الانهماك بالتفكير في أمر كتابة عن هذا الساخر من الفكرة، باتت عنده في المبكر من تلك الساعة، الوحيد من متاح السبيل، للنجاة من فجيعة اللقاء مع من توهمهم الباقي من الأهل، وخوفا من أن يداهمه ومن جديد، شبح من عاد فجأة للحياة، ليموت سريعا، ولكن بعد كتابة سطر واحد، تحولت الفكرة وفجأة، لمشروع قصيدة فنطازيه تصور حال من يرددون أسم الرب في الفجر، وهم يمارسون الاستنماء على المثير في خاطرهم من أجساد ضحاياهم من البنات والصبيان .

قد قامت الصلاة ...قد قامت الصلاة. دون سواها راحوا يكررون العبارة في ختام ملعون آذانهم، باسترخاء المرتاح وبعيدا عن الزجر، كما لو كانوا نجحوا أخيرا وبطلعان الروح في نيل مرام استمناءهم في تلك الساعة من الفجر. 

- صلاة أهل الجلغ. أحسن عنوان. ردد بفرح مباشرا وعلى عجل  في وهج تلك اللحظة شعريا، حشو دماغه بما يريد من الأوهام عن مقبل الأيام، متمنيا أن يكون الحال خلاف ما مرير جرى في أول أيام العودة لما كان يسمى في الماضي بغداد. ظل يتمنى ويتمنى إلا أن نام في النهاية ولم يستيقظ إلا وهو يستقل سيارة أجرة في بداية مشوار إنجاز معاملة التقاعد.

- إستاد ...لا تعب روحك ...إذا ما عندك وآسطه تكّص كّص، خللي الأخضر يعينك. قال سائق السيارة بعد أن عرف وجهته قبل أن ينهمك في الثرثرة عن عذابات الوقوف في طوابير الانتظار في الطرقات وعند مراجعة الدوائر وفي المستشفيات وفي كل مكان، وكيف بات وعلنا يمكن اختصار أمد هذا العذاب بالرشوة، ومخصوص إذا كان الدفع بالأخضر الرنان.

من فرط الإعياء لم يعقب. كان من الصعب أن يفعل ذلك وهو يقاوم سلطان النوم. في الواقع ما كان يوجد هناك ما يدعوه للتفكير وهو يستعيد في ذهنه  المطلوب ترديده من العبارة (جاي من طرف الدكتور عبد الخلف والسيد الوزير عنده علم بالقضية) والتي ستجعله حتما مو حي الله واحد، وتكفي جواز مرور، للحصول بسرعة ودون تأخير على موافقة من جاء دورهم في التوقيع على المعاملة.     

- منو هذا الافندي عبد الخلف وعن يا وزير تحجي. صرخ يزجره المسؤول عن تنظيم السره في طابور الرجال، وكان على وشك الرد بقصد التوضيح، حين عاد البسطال للقول: شكّول ...شكّول ...ورد البكّاله. ردد وهو يحرك يده بما ينم عن الازدراء وواضح الاستهانة، لينطلق من تابعوا هذا المخزي من المشهد،  بالضحك سفاهة ، طمعا بكسب رخيص ود من يمارسون سطوة البسطال، براس جميع من شاء حظهم العاثر الوقوف مع القطيع في الطابور، 

- حجي ...لا تحرك أعصابك من الصبح...أسمع وطنش...اللي يشوف خلفتٌه ..يكّول نازل علينٌه من المريخ. عقبت المسؤولة عن طابور النساء، وكانت ترتدي دروازه قزوين من الساس للراس ، موديل بس ربك يدري بالمضموم جوه. 

لم ينتهي الأمر عند هذا الحد. راح شباب القطيع  يتنافسون في التصنيف على هذا الافندي من ربع بيش كيلو، اللي يريد الناس تفرشه البساط الأحمر، وتكّوله تفضل يا تاج الراس، فيما لاذ من هم قرين العمر بالمطبق من الصمت، وعلى ملامحهم ترتسم علامات الهزيل من الرفض، كما لو ما ظل عندهم حيل للاحتجاج على سخيف ما يجري، وهم ما غادروا قبورهم في أجازة، إلا بقصد إنجاز معاملات تقاعدهم، لتوفير القليل من شحيح الزقنبوت للعاجز بعدهم من الأرمل أو من ظلوا على قيد الحياة من البنات.

في المهين من تلك اللحظة، ما كان يملك من الخيار غير أن يلوذ بمطبق الصمت خوفا من التعرض للمزيد من التقريع، بعد أن أكتشف في ذل مزعوم التفتيش، وتعرضه لما كان لا يتوقع مطلقا من البهذلة في الطابور، أن ما يملك من كلمة السر، لا تساوي شرو نقير، ليظل مرغما على الوقوف ولساعات طويلة وسط من ظلوا يتطلعون نحوه بازدراء قبل أن يصل أخيرا لصاحب الأمر، والحصول على المطلوب من الموافقة.  

********

لم يستسلم. رفض الاعتراف بخطأ ما أرتكب من الحماقة. ظل يقشمر روحه بجميل التمنيات، لدحر مشاعر الخذلان والخيبة، وأن تكرار مهين ما جرى في اليوم الأول، على مدار اللاحق من الأيام، متجاهلا  وهو يتنقل  مغصوبا من طابور لطابور، الشاخص ملء البصر والسمع من مر الحقيقة، مختلقا وببلاهة العناد،المزيد والمزيد من واهي الأعذار، لتجاوز مخازي كالح واقع الحال، وبشاعات انقلاب طباع الناس، كما لو ما عاد يملك من الخيار، غير أن يكون وطوعا في موقع من يطخ راسه بالحايط, دفاعا عن وهج المقيم في الذاكرة، من زاهي التصورات.

في أول الأمر، كان كل شيء يبدو وبوجع دهشة الصدمة، مخربط وفي غاية التعقيد، ولكن مع مرور الأيام، بدأ يدرك وبالتدريج، أن مسبق أوهامه عما كان يتمناه عن أصيل الناس، هو ما كان بالذات يضفي الالتباس على ما هو واضح للعيان من الخراب، نفوسا وواقع حال، بعد أن غاب العيار والمعيار، وبات كل شيء عند الناس في حكم المقبول والعادي كلش، بما في ذلك مفضوح غريب الشذوذ، ونقيض المواقف، وما يرددون في ذات الساعة، من متناقض القول، وأن تظاهروا كذبا مع غليظ القسم، بما هو العكس، ليغدو كل شيء ...كل شيء، مختلفا تماما وغير شكل، كما لو قد عاد بالغلط بعد مرير عقود الزمن، لبلد أخر غير الذي يعرف.

في ذل ساعات الوقوف في الطوابير، وجد الناس لفرط اليأس، ربما بعد أن خذلهم ما طال انتظاره من الأمل، أو طول الإدمان على وجع الضيم ، قد نحروا وبسجينة عميه كل عروكّ الفرح في أعماقهم، وباتوا يجهلون مذاق حتى الهامش من مشاعر السعادة، ولا يعرفون حتى كيف يمكن للمرء أن  يمارس فعل الضحك، وأن فعلوا، تراهم يضحكون بصخب وضجيج صرخات المذبوح من الشاة، وعلى ملامحهم ترتسم علامات الندم، لممارسة هذا الشاذ من الفعل.

أكثر ما أغاضه، ذليل خنوعهم وشذوذ تآلفهم مع الموت، وكأنهم قد أدمنوا الموت حتى صار عندهم قرين الحياة ...لا النقيض. أو بات عندهم البقاء على قيد الحياة، ضربا من عاثر الحظ وسوء الطالع، والموت بات الأمل والمرتجى، والقاعدة والمبتغى، وخلاف ذلك، مكروه الاستثناء، وبحيث صاروا يتمنون علنا وبلهفة المشتهي لقاء عزرائيل، بعد أن عادوا في الحاضر، كما كانوا في الماضي، جثثا تمشي برفقة الكفن والنعش، ولا تملك من ضئيل نبض الحياة في المهتري من العروق، غير قدرة تكرار صرخة: الله آخذ أمانتك ساعة كّبل.

وجدهم يرددون وبحياد غريب، أخبار التفجيرات وعدد الذين ( الله ربهم) عندهم حظ وماتوا ساعة كّبل. مرددين ذلك على عجل ودون ذكر المزيد من التفاصيل، كما لو كانوا يكرهون، تكرار ما صار عندهم في موقع البايت من مألوف الأخبار، أو بدافع استعجال الحديث عن ما هو الأهم والمفيد، الثرثرة بالمفضوح من الحسد عن أخبار معارفهم ممن صارت أيدهم بالدهن، بعد أن عرفوا أشلون يلعبوها زين ويه الشفاطة بالحكومة والبرلمان.

حتى التعبير بصريح العبارة ودون خوف، عما يعتمل في نفوسهم النقمة والتذمر، والذي تصوره واهما كما لو كان ومضة الأمل الوحيدة، وسط خراب ومخازي قاتم واقع الحال، سرعان ما تبدد، ساعة أدرك أن الناس وبعد أن غادروا السجن، لا يعرفون وبعد طول حرمان، ممارسة متعة الحرية، وبحيث باتت عندهم، لا تتعدى حدود مجرد ترديد الفارغ من بليد الثرثرة، ليظلوا كما كانوا يتعاملون مع بائس وجودهم وكالح واقع الحال بمنطق العاجز: دير بالك تشغل عقلك وتفكر ...خليها على أبو خيمة الزركّة ...وأنت تعيش ...تموت ...مرتاح.

 كان يعرف وسلفا، أن شذوذ ما يجري على أرض الواقع، يضيق المسافة ما بين المعقول واللامعقول، ولكن ما كان يخطر على ذهنه أبدا، محنة التواجد مرغما، في هذا الضيق من المسافة، ليغدو وتالي العمر، في موقع الضحية والشاهد، لكل ما هو خلاف المقيم في الذاكرة، من جميل الأماني.

 

***************

بعد سبع من مرير الأيام، بات عاجزا تماما عن اختلاق المزيد من واهي الأعذار. ما عاد بمقدوره الاستمرار في ممارسة لعبة أن يقشمر روحه وهو يشاهد أشلاء الواقع، وما تبقى من فضلات الحياة عند الناس، تمضي عمياوي صوب المجهول،خارج سياقات حكم العقل والمنطق، كما لو بات عبث اللامعقول، ينفرد بسلطان تقرير مائل الأمور، متحكما دون سواه بسطوة تحديد مصائر ضحايا الظلم وملعون الحرب وذل الحرمان، بعد أن باتوا في موقع فاقد البصر والبصيرة من  القطيع.

- صوجي .... من الأساس... ما جان لازم  أورط روحي وأرجع. ردد بوجع وهو يستعيد مرغما نص كلمات القريب من الصديق يوم حذره وعبر الهاتف وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ندما :  إذا أتريد أطكّ من القهر وناوي تموت ساعة كّبل... تعال. ومات. مات بعد يوم واحد من الوصول لبغداد. تذكر ذلك  وهو يحاول من جديد ودون جدوى الفرار من مشاعر الندم والمرارة والاستياء، دون أن يجديه نفعا عزمه الكتابة عما عاش من وجع التجربة، لمنع غيره من ارتكاب ما فعل من فادح الحماقة.

أكثر ما ظل يحاصره من، وجع السؤال، في تلك اللحظة من مشاعر المهانة والذل، البحث عما دعاه أن يغض النظر عن متكرر التحذير من مفضوح دوافع إلحاح عبد الخلف، إقناع غيره بفكرة السفر، بزعم ( لازم أتشوف الوطن كّبل ما تموت) بقصد جرهم للمشاركة في تلميع مزري واقع الحال، حتى لا يظل وحيدا يمارس هذا العار من الكار، منذ أن راح ورجع، وبات بعد غليض الشتم ...يمدح أهل السطوة والسلطان.

- جان لازم أرجع ومن أول يوم. لا ...من أول ساعة. عاد للقول ناقما وهو يحدق من جديد في ساعة الجدار، محاولا الفرار من مشاعر الخيبة، وطمعا بتركيز التفكير بالمناسب  من السيناريو لتحضير ما يستوجب من القول، ساعة مقابلة مدير الإدارة وحيث كان يعمل قبل الهروب، لإنجاز الخطوة الأخيرة لمعاملة التقاعد.

- ومنو منعك وليش ما رجعت ... لو متدري المكتوب ينقره من عنوانه .قال من كان يسميه امتعاضا الرفيق أبو تأنيب ، وأعتاد أن يداهمه بحضوره المباغت مؤنبا بالصارم من السؤال، كلما وجده بعد العجز عن التبرير، يجنح لجلد الذات ندما.   

- صدكّني اليوم ...تخلص ..ما تخلص المعاملة .لا زم وحتما .أرجع. قال بحزم.

- قشمر روحك ...راح أتظل تركض وره وساخة فلوس التقاعد ...ومن يدري بلكّت عزرائيل يحن كّلبه عليك وتشملك بركات التفجيرات... وتروح بوله بالشط ....والباقي من لشتك يدحسوه بثلاجة من غير كهرباء بالطب العدلي.. وبس تطلع جيفتك يشمروك زبالة للدود  بمكّبرة الغرباء...وأنت اللي شايف حالك وتحلم كّبرك من بعدك يصير مزار. قال يحاصره بمرير السخرية.

لم يعقب. كان يدرك أن الصمت في معظم الأحيان هو مناسب السبيل للإفلات من مزيد التقريع.

- بعدين – عاد أبو تأنيب للقول - مو عيب عليك تكّدي تقاعد من حكم فاسد، ما جان يستحق عندك غير الفضح، بالصحف ومواقع الانترنيت والفضائيات ...كّوللي شنو فرقك عن هذا المعطوب تاريخه واللي حتى عزرائيل يستنكف يقبض روحه، واللي يتوسل وبدون مستحه... يزيدون تقاعده جم فلس .قال عامدا وبخبث بما يغيضه من جارح القول ومعيب المقارنة.

من جديد لم يعقب. ظل يلوذ بالصمت خانعا.

-عيب عليك تكّابح وتكذب على روحك وأتكّول ما جنت أدري هيجي راح أتصير وأنت... مو غيرك... أنطيت الآذن الطرشة لكل اللي كّاللوك لا تروح وخليك مثل ما جنت طول عمرك... تمشي مرفوع الراس بين الناس. عاد يحاصره بالتأنيب، فاضحا متناقض مواقفه وهو يجرده من سخيف العذر قبل أن يضيف وبغضب : أنت من يوم ما خش عبد الخلف جوه إبطك، أتغير حالك وصرت غير شكّل، تهامش اللي يوٌدك من صدكّ وحتى العزيز من الصديق...صار عندك وعلى غفلة ...واحد معقد... شايف حاله ومتطرف جيفارا... ونسيت أنت مو غيرك يوم ما كتب ( حضينة طفل مصاب بالإسهال ولا علم صدام ..)  كّلت هذا مو مقال ...هاي قصيدة من يراع المتنبي يوم نزع لباس كافور وخالاه يمشي بين الخلكّ مكشوف الطيز .... وتالي متالي تروح برجلك للسفارة وترتضي علم صدام إيزرب عليك جنسية وجواز... وبعدك بدون مستحه تكذب على روحك وتكّول باقي مثل ما جنت... وما تغيرت. قال وهو يشدد حصاره بعار ما فعل من الحماقة.

- إذا جان قصدك من السفر ( عاد للقول) بس أتشوف الباقي من الأهل... حوازك الأجنبي جان يكفي وزيادة ... ودير بالك أتكّول راحت حتى أتشوف بعينك واقع الحال بعد ما سقطوا التمثال وعافوا رجليه مجلبه بالكّاع، وجنك لا سمعت ولا قريت عذاب اللي راحوا ورجعوا بطركّ الهم والغم بعد ما مات عندهم الأمل والحلم. أشرفلك تكّعد وأنت ساكت طلي.قال أبو تأنيب وبلهجة القاطع من الأمر، وهو يختفي عن نظره، بعد أن قاده من جديد لموقع مكسور العين ولا يملك من الجواب غير ذل الصمت.

********

للمرة الأولى ما كان يوجد هناك طابور انتظار، ولا حاجز للمهين من التفتيش. لم يشاهد في الرواق الطويل، سوى شاب  محشور الجسد عنوة في قاط من دون رباط ، يروح ويجي محدقا في أبواب المغلق من الغرف، وكما لو كانت مهمته منع الموظفين من المغادرة قبل نهاية الدوام، أو ربما كانوا يتجنبون الخروج حتى لقضاء الحاجة، خوفا من غضب، من كانت ملامحه تفضح إدمانه على الطر والتطبير.    

- بس كتب وأرواق ...شوف. قال بذعر بعد أن أسرع الشاب نحوه راكضا لينتزع وعنوة الحقيبة، وبعد أن كرر تفتيشها أكثر من مرة، تعمد تفتيش جسده بعنف، كما لو كان يريد معاقبته بجريرة عدم الانتباه لحضوره من أول لحظة، فيما راح يكرر في سره ناقما ( صوجي) لتجاهله نصائح من حذروه من مضار حمل الحقيبة، لتجنب أن يكون موضع الشبهة وعرضة للمهين من التفتيش، أن لم يتعرض للاختطاف والاغتصاب، طمعا بالمتعة مجانا أو فلوس الفدية، أن لم ينتهي مقطع الأوصال، وليمة للمسعور من الكلاب في واحدة من مزابل الجثث.

كان على وشك القول : جاي من طرف ...حين أمره الشاب بالجلوس وهو يحرك يده بالمهين من الإشارة وعلى ملامحه ترتسم صفاقة القول: أكّعد وأنت ساكت.

نفذ الأمر وهو يجلس بخنوع جوار عذاب السؤال عما دعاه للتراجع وسلوك درب الحماقة، بعد أن قرر فور ما جرى مع قنصل الصحاف في السفارة، الشطب نهائيا على فكرة السفر، وتحرير الذاكرة من قبضة مشاعر الحنين، ولكن دون جدوى. حلم أن يشوف بغداد قبل أن يموت، ظل يلاحقه على مدار اليوم، حتى بات في النهاية، يمده بالمضاف من السبب للبقاء على قيد الحياة.  

- صدكّني بعدني أريد أسافر... بس ذبيت الجنسية والجواز بالمرحاض. قال ردا على سؤال عبد الخلف عن مبرر تأخره في السفر.

- أحسن. أقصد أتسافر بجوازك الأجنبي هواية أحسن، وكل ما تحتاجه من الإثباتات والوثائق، يطلعوها هناك من جوه الكّاع ....لا تنسى ...أنت مو حي الله واحد... أسمك معروف كلش ، وبس أتكّول جاي من طرف الدكتور عبد الخلف ... والوزير عنده علم بالقضية كلشي يجري على مرامك وبسرعة الطيارة. قال وهو يقوده للمطار، ولم يتركه بزعم حرص الود إلا بعد أن ارتقى مترددا سلم الطائرة.

كان كل شيء في الحيز الضيق من المكان المخصص للانتظار، يبدو كما كان ساعة غادر الدائرة قبل ثلاثة عقود من الزمن. لا شيء تغير باستثناء استبدال صورة صدام بعلم صدام على الجدار المقابل لذات العنتيكّه من المقاعد برائحتها الكريهة، وهي تتوزع دون انتظام من حول الميز الحديدي الذي لا تزال تمطيه شدة ورد اصطناعي، وجوه الميز، ترقد كما كانت،الوسخ من مخلفات الزوليه، بلونها القريب من الكركم، تماما كما كان بشع وجه ضابط أمن الدائرة.

- السيد مدير عام الإدارة ينتظرك. داهمه فجأة بالقول وهو يشير بيده لذات الغرفة التي كان يحتلها ضابط أمن الدائرة، يوم هرب بجلده مبكرا من الجحيم . 

- أشجان راح تخسر... إذا أتكّول تفضل. قال باستياء.

- شنو. رد الشاب بغضب وصفاقة من لا يعرف غير فض السلوك. 

تجاهله وهو يمضي مسرعا صوب حتفه. ذات ما كان يراوده من الإحساس، كلما كان يستدعيه الدوني أبو جعفر لجولة جديدة من متكرر مفضوح التهديد والوعيد ، وهو يدعوه أن ( يكّعد راحه)   مكررا على مسامعه حكاية ( بعد ما صرنا إيد ...بيد... والخندق واحد) وغير ذلك من سخيف مزاعم القبر من الخندق .

طرق الباب متمنيا الحصول وبسرعة على الأخير من التوقيع واستلام قرار التقاعد، للعودة وعلى عجل من حيث جاء، قبل أن يطكّ من القهر أو يفقد ما تبقى من العقل.

كرر الطرق أكثر من مرة، قبل أن يسمع رد من يدعوه للدخول قائلا ( فوت) بلهجة الناطق من البسطال. فتح الباب وفات، بامتعاض المحصور، لحظة الدخول للمرحاض، دون أن يخطر على ذهنه مطلقا، ما ينتظره من نذل المفاجأة. 

في الغرفة، ما كان يوجد هناك، غير ضابط أمن الدائرة، بكريه رائحته والوسخ من ملامحه الصفراء، وبعد أن باتت (خلفته) بفعل عار التجاعيد ، أكثر بشاعة بكثير، مما كانت في الماضي.

في تلك اللحظة من داعر الزمن، ساعة لا يجدي نفعا هزيل العذر، ولا بليد مشاعر الندم، أدرك أخيرا وبعد فوات الأوان، فداحة ما أرتكب من مشين الغلط. بعد أن ظل على مدار سبع من مرير الأيام، يمارس بلاهة العناد، متجرعا وحد الثمالة، نزيف وجع كل ما هو نقيض التمني،  

وقف أثول، متسمرا عند الباب من فجيعة الموقف ووطأة الشعور بالندم، تعطل ذهنه تماما عن التفكير. ظل يحدق ببلاهة الحيرة والدهشة، باتجاه مقعد المرحاض الجالس خلف الميز، مرتديا قناع السافل من الذئب، لحظة الإجهاز على الفريسة، وهو يحاول دون جدوى، إرغام كريه ملامحه، اصطناع ما لا تجيد حتى من مزيف الابتسامة. 

قرر أن يغادر المرحاض على عجل. أكتشف عجزه على الحركة. صار حيث يقف، جثة تتوسل شاغر القبر. مات. لا ...ما مات، ولكن في تلك اللحظة، ما تمنى غير الموت، دون تردد ،سلم وبخنوع، قياد ما تبقى من الروح ، لقبضة العدو من الربو، الذي أنقض يشدد الخناق من حول واهن العنق، بقصد كتم أنفاسه، كما أعتاد أن يفعل خبيثا ، كلما امتطاه الارتباك والحيرة، ساعة مواجهة ما هو عصي عن الفهم من شاذ الوقائع.  

- عبالك البارحة.... مو ....قال برخيص ود النذل، منتشيا بالمرسوم على ملامح الضحية من ذل المهانة، وهو الذي عجز أن يكسر عينه في الماضي، رغم كل حقير وسائل المضايقة طوال سنوات عار إيد...بأيد .

لم يعقب. في تلك اللحظة من الفجيعة، ما كان يشتهي غير تفريغ أحشاءه من ملح الرغبة للزواع، ندما من إصراره على اختلاق سخيف المبررات والأعذار، لتجنب الاعتراف بما أكتشف من مر الحقيقة، منذ أول لحظة الوصول، ساعة وجد كريه علم صدام ينتظره مفلكح على الجدار في مواجهة باب الدخول لردهة المطار .

- كون عاد الله هداك، ومو بعدك على ضلال فكر أيام زمان . قال مقعد المرحاض وهو يرتدي فجأة العمامة قبل أن يضيف بلهجة الأمر: ليش واكّف ...تعال أكعد... قال وهو يكرر بإشارة من يده دعوته للجلوس.

- بس لا بعدك وبعد كل هاي السنوات شايل غبض من عندي..... أنسى عزيزي... لو ما تدري... داعيك جان عبد المأمور. ومتصدكّ إذا أكّولك جنت من ربع  ولله جنود من عسل. قال البسطال بسفاهة النذل.

- أنجب أبن القندرة. حاول أن يصرخ أكثر من مرة، ولكن دون جدوى. في تلك اللحظة، أكتشف عجزه أيضا عن النطق، كما لو  ضمر عنده اللسان احتجاجا. مظهره وبليد ملامحه وهو يحاول تكرار الصراخ، صامتا، بات كما لو تعرض وفجأة لمس من الجنون . لا . ملامح من تخبل بالفعل.

- أتريد ماي . تساءل أبو عمامة بسطال ساخرا من عجزه عن النطق، قبل أن يضيف بخبث من يفتقر تماما لمشاعر الندم:  صدكّني بس شفت أسمك، جنت أريد ما أوقع على المعاملة بسرعة حتى أخليك تروح وتجي جم يوم...مو حتى أشلع كّلبك ...لا سامح الله...لا ...من كثر المحبة، حتى نكسب شوفتك أكثر... بعد كل هذا العمر...ومن يدري ...يمكن الله يوفقني وأهديك لطريق الحق .

-أنجب أبن القندرة. عاد يحاول دون جدوى الصراخ من جديد.

- لا تخاف... مو قصدي أشوفك مثل ما جنا نشواف أيام زمان...كلها سين وجيم......ولعبان نفس...قال متصنعا مبتذل الود وهو يرتدي لبوس المقرف من المزاح قبل أن يضيف : بس السيد المدير العام كّال سعادة الوزير شخصيا طلب نمشي معاملتك بسرعة ومن غير تأخير... ومبين أكيد حضرتك هم جاي من طرف الدكتور عبد الخلف ...مو ...؟ تساءل بسخيف فضول من يعرف الجواب سلفا،

كان على وشك أن ينفجر من غيض العجز عن الصراخ، حين عاد البسطال للقول وبفرح مفضوح : صحيح الدكتور مربوط راس وصرة بالعم سام، بس يظل من عدنه وبينه،. وساعة... الساعة ما يحن كّلبه إلا علينٌه.....أبن اليوم.......مو مثل بعض الناس. قال يقصده وهو يعود لسخيف المزاح.

أدرك أخيرا، أن لا جدوى من تكرار محاولات الصرخ. ما عاد يملك من عدة الحضور، غير بصر راح يغرق بدوره في غشاوة العتمة، لفرط  التحديق بالقاتم من سواد الباروكة، والمصبوغ بحمرة الحيض من الذقن، إلا أن بات قبيح وجه البسطال، لا يحمل من ظاهر الملامح، غير قيح الدمل، وشق مشوه في موقع الفم، أقرب ما يكون شكلا، لطيز المطي.

حين غير قرفا اتجاه النظر. أكتشف أن علم صدام يكّنبص في جميع زوايا الغرفة، وكل شيء مصبوغ بفحيح الزيتوني : الجدران ...السقف ...الكّاع ..سلة المهملات .... فيما كان البشع من عيون الطاغية تحاصره باستصغار الشامت من النذل، وكما لو كان يريد القول بسفاهته المعهودة : عبالكم خلصتوا من يوم علكّوني بالحبل....هي....هي ...هي. 

- ليش واكّف بالباب وتفر براسك... متعجب ومحتار. تسائلا البسطال بغضب هذه المرة وهو يدعوه من جديد للجلوس، ودون أن ينهض من مقعده، كما لو كان يتعمد احتقاره، أو تبيان ما يملك من عار السطوة.  

من جديد عادت تستحوذ على ذهنه فكرة التبول احتجاجا، كما لو كان يريد هذه المرة، تحقيق ما عجز عن تنفيذه، ساعة اللقاء مع القنصل في سفارة غائط صدام.

- طبكّ طوب. صرخ فجأة وهو ينزع العمامة، كاشفا عما يرتدي من زيتوني اللباس ، إعلانا لعجزه عن خداعه وجره للحديث. قبل أن يضيف وباستياء المهزوم : هاي معاملة تقاعدك صارت جاهزة، وعساك تذكرنا بخير بعد اليوم . قال وهو يرمي باتجاهه الأوراق لتسقط عند موقع قدميه.

في تلك اللحظة فقط أستعاد مسلوب القدرة على الفعل. تحرك باتجاه مقعد المرحاض وهو يجر سحاب البنطلون، فيما كان البسطال ينهض مبتعدا عن الميز وهو يصرخ فزعا : هاي شنو......

شراح أتسووي...تخبلت .. ذلك أخر ما تناهى لسمعه، وظل عالقا في ذهنه عما حدث في غرفة حقير ضابط أمن الدائرة.

*******

لحظة استعادة المفقود من الوعي، واقفا في منتصف جسر الجمهورية، ما عاد يذكر الذي جرى في غرفة أبو عمامه بسطال، هل تراه بال على علم صدام وضابط الأمن الذي صار مديرا، أو هرب على عجل من المرحاض . كل ذلك وغيره من التفاصيل غاب عن ذهنه تماما، دون أن يعرف سر تواجده في هذا المكان بالذات،  ولا مبرر التحديق بثبات وآسى للباقي من مجرى دجلة، وما إذا كان يفعل ذلك، حزنا على حال الضحية من النهر، أو على البائس من مهان الذات.

- بس المدير... لو كل اللي بالدائرة شدوٌ علٌيك. تساءل أبو تأنيب ساخرا وهو يدعوه بحركة من يده للقفز قائلا : شتنتظر ...جيت وطم عارك.. كّبل ما تنفخ بطنك وتصير فضيحتك على كل لسان.

- يخليك الله عوفني بحالي. كان على وشك الصراخ وهو يكاد أن يبكي من فرط وجع الندم ولكن بسرعة تراجع عن عزمه، موقنا أن لا جدوى من التوسل، بعد أن بات لا يملك بفعل فداحة ما أرتكب من الحماقة، غير تجرع خزي الصمت.

- جبان ...شمرلك المعاملة مثل اللي يتفل بوجهك، وأنت ساكت محتار، واللي يشوفكّ ساعتها يكّول متونس وفرحان. عاد يحاصره بالازدراء.

- وماذا كان بمقدوري أن أفعل من هول المفاجأة ...هل كان من المطلوب أن أنقض على عنقه ولا أتركه إلى أن يموت مشنوقا بيدي. قال بالفصحى التي كانت تمتطي معوج اللسان في لحظات العجز عن إيجاد مناسب التوضيح، لتضفي على مظهره وما ينطق من العبارة المزيد من ذليل البؤس. 

- آكّله تفل بوجكّ وهو يكّللي..مشنوقا بيدي....يعني بعدك ومن دون مستحه تحجي كبار ...كبار.

ما كو فايده ...خلص جلدك أدبغ وتعودت على البهذلة تالي عمرك. بس أريد أعرف شوكت راح تعترف ...رجعتك وركضك وره فلوس التقاعد ...جانت طيحان حظ وغلط بغلط. قال وهو يتطلع نحوه باستصغار من يريد القول :...أشرفلك ...تسد حلكّك وتسكت.ّ

لم يعقب. هربا من وطأة التأنيب، قرر أن يلوذ بالصمت، ولكن بعد لحظة وجيزة عاد يمتطيه التبرير ليقول وبحماقة:

- صار عندك اللي يطالب بحقه من خيرات بلده... مذموم ....إلا إذا جنت تعتقد فلوس التقاعد وغيرها من الحقوق...يصرفوها من جيب  حكومة فساد الطوايف والعشاير؟  قال مكررا ما كان  يردده عبد الخلف لحثه على السفر دون تأخير.

- منو منعك لعد... أطالب بحقك من خيرات بلللللللللللدك ( مطها ساخر) بزمن مشعول الصفحة...لو جنت تعتقد... خيرات العراق ...الافندي جان وارثها من بعرور صخول العوجه ؟ تساءل أبو تأنيب بغضب. 

- لا تخبط ...ترى هاوي أكو فرق. رد مسرعا 

- بعد خراب كل هاي السنوات... والمرار اللي شفته من يوم ما رجعت .. تريد تقنع روحك وغصب أكو فرق .. لو تريد أتكّول داعيك متطرف وغلطان ...وبينك وبين روحك تعرف كلامي مضبوط ...وما يحتاج برهان.  

- شنو ...قابل بس وحدي رجعت ...هواي غيري سووها. قال بارتباك محاولا من جديد تبرير ما أرتكب من الحماقة.

- غيرك يعتقد صار تغيير... ويركض وره جنسية وجواز وتقاعد... يمكن معذور ...بس أنت ليش.... ...لو نسيت ...جنت وحدك حزب وسلاحك القلم.... تكطع طول وعرض.. عار اللي نزعوا الزيتوني ولبسوا العمامة...... وصوتك جان يلعلع بالفضائيات... تفضح خسية حكم الطوايف والعشاير ...وأتصيح ليل ...نهار...وبعالي الصوت :يا ناس ..يا عالم... هذا والله ما جان الحلم، ولا هو البديل. عاد من تكّلب على غفلة عكّرب مثل صاحبك عبد الخلف ...أتصير مواقفك وكلك على بعضك ما تسوه عانه عند الناس . رد أبو تأنيب صارخا بغضب وهو يواصل دعوته أن يجيت بالشط بإشارة من يده.

لاذ بالصمت ولم يعترض. في يأس تلك اللحظة، ما عاد بمقدوره أن يتحمل عذاب جلد الذات، بعد أن بات محشورا بين تقريع أبو تأنيب وعجزه عن اصطناع المزيد من التبرير. فجأة بات لا يشغل ذهنه غير فكرة مشاطرة دجلة الانتحار، ليتخلص هو الأخر من عار وجوده على قيد الحياة، معاقا بالذل،بعد أن ضيع في معدود الأيام، كل ما كان يجعله على الدوام، يمشي مرفوع الرأس بين الناس. 

رفع إحدى ساقيه استعداد لتجاوز  سياج الجسر، وكان على وشك أن يرفع الثانية، تمهيدا للقفز، حين سمع صرخات وحشية تدعوه للتوقف عن الحركة. نفذ الأمر بسرعة ومن دون تردد، فيما ظل من كانت أصواتهم تفضح مدى رعبهم يصرخون:  أرفع آيدك وذب الجنطة ونام على بطنك. كان على وشك السؤال عن كيف يمكن وفي ذات الوقت تنفيذ هذا المتناقض من الأوامر، ولكن وقبل أن ينطق بحرف واحد، طار شبر عن الكّاع، بفعل جلاق كافر قاده للسقوط متوجعا على وجهه بعيدا عن حقيبته ونظاراته والبيريه، فيما أسرع بسطال يمتطي ظهره صارخا:  أبن الخره ..دير بالك تتحرك...والله أسوي لشتك منخل.

- أمرك سيدي. قال بخنوع وهو يكاد في المهين من تلك اللحظة، أن يبكي ندما هذه المرة، لغباء تجاهله، متكرر التحذير من مخاطر التنقل مع الحقيبة.

- لك ليش واكّف متنح بنص الجسر وتبوع ممنوع على الخضره...أكيد لو إرهابي ومعبي طيزك وجنطتكّ طكّكّات... لو من فروخ ساحة الأمة....وناوي أتسوي الوراك سبيل.... للرايح والجاي. قال البسطال وهو يدوس بقوة على ظهره.  

- والله سيدي عابر سبيل. قال متوجعا وهو يحاول أن يرفع رأسه قليلا، بقصد إزالة الالتباس وتجاوز سوء الفهم، ولكن البسطال عاد يصرخ: أنجب ولا حرف... ودير بالك ترفع راسك لو  تتحرك. فيما راح بسطال أخر ينهمك بحذر وخوف تفتيش الحقيبة ، قبل أن يلتفت للخلف  قائلا: سيدي عطلنه المرور علمود حضرة جنابه.... عبالنآ أربع إرهاب ونحصل من وراه على إكرامية... طلع الافندي حشه كّدرك من ربع نحباني لالو والجنطه مليانه كتب وأورق. ردد ذلك باستياء قبل أن يضيف مخاطبا من كان يمتطي ظهره  : عوفه ...عوفه ...خللي يكّوم ...كّبل ما يخري على روحه.... ويسويلنه مشكلة ويه أمين العاصمة. 

- كّوم ولك...كّوم. أمره من يمتطيه وهو يضحك سفاهة على مشهده وهو يجمع مرتبكا ما تبعثر من أشياءه.

- لك  ليش ما كّلت أنت من ربع بيش كيلو. تساءل البسطال بغضب.  

لم يفاجئه مبتذل التوصيف ولا حشره من جديد في خانة بيش كيلو، كان على وشك الاعتذار وكما كان يتحمل ما حدث من سوء الفهم، ولكن لحظة أن استوى واقفا شل لسانه الفزع، بعد أن شاهد أربعة رجال شرطة في وضع استنفار يحاصرون ضئيل وجدوه برشاشاتهم وكما لو كانوا على وشك إعدامه رميا بالرصاص. من فرط الهلع، رفع كلتا يديه، مكررا وبرجاء العاجز عبارة (سيدي والله عابر سبيل) مخاطبا خامسهم الجالس في صدر السيارة، وكان يريد قول المزيد من عبارات التوسل، للخلاص من جحيم هذا المأزق، حين جره أحدهم نحو السياج وكما لو كان يسحل جريدي،ليحاصره من جديد بالسؤال عما دعاه للوقوف مشبوها في منتصف الجسر، مسلطا بصره صوب المنطقة الخضراء. كان على وشك الرد : والله سيدي ما ادري، ولكن خوفا من عواقب ( ما أدري) بكل ما يمكن أن تثيره من الشكوك، أسرع يقسم مع أغلظ الأيمان، جهله بالمحظور من مواضع الوقوف واتجاهات النظر، باعتباره من أهل بره وغشيم، ولم يتوقف في هذا الممنوع من المكان، إلا بفعل ملعون الربو وهو في طريقه للمشاركة في مهرجان الإبداع والحضارة وبدعوة من قبل السيد النقيب شخصيا، متعمدا تكرار الأخير من العبارة أكثر من مرة، لتبيان مدى أهميته وتأكيد براءته مما يظنون من الشكوك.

- سيدي ...الافندي يكّول ...شاعر وجاي من بره.. معزوم... يقره قصيده بمهرجان الإبداع والحقارة. قال مخاطبا سيده الجالس بزهو الضفدعة في صدر السيارة.

- مهرجان الإبداع والحضارة. قال موضحا وهو يفكر في تبيان الفرق ولكن الشرطي تجاهله ، ربما بدافع الحرج أو بقصد إغاضته، فيما أسرع بسطال أخر للقول ساخرا : حضارة ..حقارة ...ماكو فرق ...كلها خريط وعلى نفس الوزن .

- آسف ...فعلا ما كو فرق، عقب مسرعا بذل المداهنة، فيما انطلقوا يضحكون بصخب وهم يباشرون التصنيف على فكرة أشغال الذهن بما لا يستحق الاهتمام من سفاسف الأمور.

- أصعد نوصلك. قال بسطال صدر السيارة، كما لو كان لا يزال يساوره الشك في دوافع وقوفه في منتصف الجسر،

- سيدي وين أنكعده. تساءل أحدهم وهو يحك موضع عضوه .

- كّعده بحضنك.... لو صرت تالي عمرك.... تستحرم. رد الضفدعة ضاحكا بمجون، ليتحول مجرى التصنيف باتجاه ترديد الشائع من حكايات أبو خالد وما إذا كان مثل قرضاوي النكاح في موقع العالم والمجتهد في علوم ضرب الطيز.

كان لا يزال يبحث عن مناسب الاعتذار والسؤال متوسلا عما إذا كان بمقدوره أن يمضي  للمهرجان راجلا، حين وجد نفسه يتنقل مرغما وبالسره بين أحضان الجالسين في مقاعد الوره، دون أن يكون بمقدوره إيقاف هذا الكريه من اللعبة، خوفا من مغبة الاعتراض، وخشية من أن تحركه بعنف لمنع ما يجري، قد يقود لانطلاق رصاصة طائشة، تضع حدا لحياته على نحو مبتذل.    

- أرجوكم ..كافي عاد . كان على وشك القول متوسلا حين باشر الجميع السؤال بالمفضوح من الشبق عن (نسوان بره... الصلوخ ليل نهار... والنيج علني بالقطارات والحدايق العمومي) وغير ذلك من سخيف ذات التساؤلات التي كانت تحاصره  خلال ساعات طويل الانتظار في الطوابير ومن قبل سواق سيارات الأجرة، وحتى عند اللقاء في الشارع مع من لا يعرف من الرجال،

في أول الأمر كان يرد بغضب، نافيا هذا التافه من التصورات، ولكن مع مرور الوقت، وبعد أن أدرك أن لا أحد يبالي بما يردده عن مكانته في عالم الثقافة والأدب وما أصدره من دواوين الشعر، راح يتعمد الجواب بما يتوافق مع مغلوط ما يريدون سماعه تحديدا، مبالغا في ذكر تفاصيل المثير من التوضيحات، ليتحول وطوعا لفياغرا تجعلهم في موقع مشدود الانتباه غصبا، للفوز بإعجابهم ورخيص احترامهم ، بعد أن بات يعرف تماما، أن مجرد الوقوف مع غيره في الطابور أو ركوب العام من سيارات الأجرة، يجعله في موقع (حي الله واحد) لا يستحق الحد الأدنى من الاحترام والتقدير،

- صدكّوني الحجي أبد ما يفيد ...لازم الواحد يشوف ويضوك لحم نسوان بره... حتى يعرف مضبوط الجواب. قال متعمدا وهو يطالع في عيونهم وملامحهم واضح الاحترام المقرون بالحسد، وكان يريد وطمعا بالمزيد من مبتذل الاهتمام ، التحول من جديد لفياغرا ولكن سرعان ما أدرك مخاطر إثارة شبقهم، بعد أن أحس بمفعول ما يردده من مثير التفاصيل على من يتنقل غصبا بين أحضانهم بعد أن راح أحدهم يكرر منتشيا: أي فدوه... أحجي بعد.

- اللي يريد يشوف ويضوك خللي يكّول. قال بلسان الكّواد وهو يدعوهم كتابة أسماءهم وعناوينهم مكررا على مسامعهم، ما ردده  مع مزعوم ولد العم وغيرهم، عن قدرته دعوة من يريد لزيارته حيث يقيم. أسرع الجميع ينفذون أمره وليغدو عندهم فجأة في موقع: الإستاد، لحظة الوصول للحاجز الأسمنتي بالقرب من مدخل قاعة المهرجان.  

- مو تنسى. كررها على مسامعه أكثر من مرة، مسؤول المفرزة متوسلا بعد أن ترجل من السيارة مودعا إياه بحرارة من بات في موقع الصاحب والصديق. لم يعقب وإنما رد بحركة يده وملامحه بما يوحي أكيد الوعد، قبل أن يتعمد معانقته على مرمى من أبصار عناصر حاجز الحماية، طمعا أن ينقذه هذا المفبرك من المشهد، من ذل التعرض من جديد لمهانة التفتيش، وعلى النحو الذي كان يجري، حيثما ذهب لمتابعة معاملة الحصول على التقاعد. 

كان على وشك الوصول للحاجز حين أعترض سبيله أبو تأنيب قائلا : اللي يشوفك تمشي ...حيل صدر ...ميصدكّ ...قبل شويه جنت ناوي أطم عارك وتنتحر.

حاول ودون جدوى إيجاد مناسب التعليل للتراجع عن فكرة الانتحار، ولم يجد في النهاية غير القول مرتبكا: باجر راجع وصدكّني بعد ما اكشف طيحان حظهم كّدام كل وسائل الإعلام..  أنتحر ...حتى فضيحتهم تصير على كل لسان. ردد ذلك وهو يرتدي من جديد، ثوب الكذاب، فيما كان يسلم قياد ذهنه لفرح وهم القناعة، من أن مشاركته في المهرجان سوف تكفل حتما، تأكيد المتميز من أهميته شعريا، وستكون مضمون السبيل لاستعادة المهدور من الكرامة وتجاوز كل ما واجهه من فض التجاهل .

- تدري – عاد يقول بفرح - كل الفضائيات والصحف راح يغطون وقائع المهرجان ....يعني قصيدتي راح تصير حديث الساعة، بعدين – قال موضحا-  عيب ما أشارك بعد ما دعاني للحضور، السيد النقيب شخصيا وكّال : إستاد ما دامك موجود تعال وأقرالك قصيدة بالمهرجان....و...

- تعال وأقرالك قصيدة...جنه عزمك على آكلة باجه ...وجنابك ...مكيف وفرحان...متكّولي أشلون يصير بعد... طيحان الحظ. قاطعه غاضبا قبل أن يضيف : ليش ما تكّول ..حب الظهور صار عندك... أدمان ..من يوم ما جرجروك ربع شيلني وأشيلك لنزيزة العلاقات العامة...... والدرب صار كّدامك مفلكح....قصايدك وجهرتك،ما خلت أحد يعتب عليها.... قنوات ومواقع وصحف، وجنك ما صدكّت ّ الدنيا صارت انترنيت، والتلفزيون فضائيات. قال مبددا مزاعم ما يردده من سخيف العذر والتبرير.

-  ما كفاك بره - عاد يضيف وبذات القدر من الغضب- أتشارك بمهرجانات تزوير وتلميع تاريخ المعطوبين بالعار ...واليوم جاي أتشارك بمهرجان... شعاره فضيحة والراعي جربوع ...لو كل عقلك وبعد كل الخراب اللي شفته.... أكو شي أسمه حضارة وإبداع... لو تعتقد  اللي راح يشاركون واللي يجيبوهم يتفرجون.... غير شكل عن اللي شفتهم من ساعة ما طاح حظك ورجعت....وبس لا تعتقد مشاركتك بمهرجان حضارة إبداع الباجه ...راح تعلي سعودك ...وتخلللي أهل التمن والقيمه ..يعرفون قيمتك ...وجنك ما تعرف ...شكّد ما تصير مشهور .... تبقى ناقص صفر بصف أبو عبرت الشط عالمودك.

- بس والله مبين عليك – عاد أبو تأنيب يضيف جازما- ما راح ترتاح إلا بعد ما كل اللي جايين لمهرجان الباجه يدوسون على راسك بالقندرة ...وساعتها ... يمكن... ومو أكيد.... تشنق روحك بالقيطان من كثر الندم. قال بنفاد صبر، وكما لو أدرك عجزه عن دفعه للتراجع والاعتراف بما أرتكب من الحماقة، مختفيا عن نظره بعد أن قاده ومن جديد لموقع ذليل المهان، فيما كان عناصر الحاجز وطوال الوقت، يتابعون ما يجري على مرمى البصر وهم يضحكون بصخب على أبو الجنطه والبيريه الواكّف يحجي ويه روحه مثل المخبل.

************

واهما كان يتصور أن القدوم لقاعة المهرجان بسيارة تابعة للقوات الخاصة، وترجل مسؤول المفرزة لوداعه بحرارة، تكفي هذه المرة، لتجاوز محنة الوقوف مشبوها في وضع متنح، دون أن يدري أن من يرتدون السواد من الزيتوني، لا يقيمون وزنا، لغير أهل السطوة، أو من يدفعون المعلوم من الخاوه، للمرور بسلام، دون التعرض لذل ومهانة التعرض للبعص بذريعة التفتيش.

- هاي وين رايح جنابك. صرخ بسطال وهو يجره دون رفق من معصمه، كما لو كان من عتاة أهل الجريمة. أسرع يستنجد بجواز سفره الأجنبي، مرددا أسمه بصوت تعمد أن يصل مسامع الباقي من عناصر الحاجز، عسى أن يوجد بينهم من يعرف مكانته في عالم الشعر والصحافة، وينقذه من هذا الذي ما  كان ينتظره من فض الاستقبال عند مدخل قاعة للثقافي من المهرجان.

- لك ...ليش أتصيح مثل الديج، لو حضرتك تعتقد ما نكّدر نقره أسمك بالإنكليزي. قال باستياء وغضب وهو يدفعه للوقوف ذليلا أمام جدارا يحتله علم صدام معقج، كما لو كان في وضع مستحي، مباشرا تفتيش ملابسه بخبرة الباحث عن اللذة في المزدحم من الباصات، شأن جميع من سبقوه في مزعوم التفتيش وهو يتنقل مرغما بين المختلف من دوائر أهل عمامة زيتوني.

كان على وشك أن يصرخ (على كيفك) احتجاجا،بعد أن تمادى في استباحة جسده بالكّرص، حين قال ردد وبسخرية مفضوحة(تفضل إستاد) وهو يربت فجأة على مؤخرته كما لو كان من ربع جوه الجسر تالي الليل.

مذهولا مما حدث، كّمز باتجاه بسطال أخر يحمل جهازا للكشف عن المتفجرات، راح بدوره يتعمد إطالة أمد فحص حقيبته قبل أن (يطش) وبابتذال محتوياتها على منضدة خشبية تحتلها مع  الذباب،صحون صغيرة، لفضلات (لفات) الطعام و(قواطي) للباقي من ( كّطوف) السجائر، وجوارها على الأرض، تنتصب علبة نيدو معدنية، متوسطة الحجم، تفوح منها رائحة كريهة، كما لو كان يجري استخدامها وعاءا للتبول، عند الملح من الحاجة، تعلوها عبارة مخطوطة بخط رديء وبحروف باهتة لم ينجح في فك طلاسمها إلا بطلعان الروح ليكتشف أن محتواها ذات ما كان يصادفه مخطوطا على الجدران في المختلف من زوايا المدينة: زمال ...لا تبول إلا إذا كلش محصور، ومن جديد عاد يبهره هذا النص السريالي الذي ينطلق من حاد الشتيمة لينتهي وديعا في حضن الشفقة.

- تفضل إستاد. قال أبو المتفجرات، وبذات القدر من الازدراء، متجاهلا وهو يضحك بسفاهة، دعوة من سبقه لتكرار ما فعل، وهو يشير بيده لموضع المؤخرة، وكان على وشك أن يفعل ذلك، بعد أن راح الباقي من عناصر الحاجز يكررون وبإلحاح ذات المشين من الحركة.

- لا ...خطيه. قال البسطال كما لو تعرض وفجأة، لنوبة غير مألوفة من شاذ الشفقة، تاركا إياه يجمع بوجع وارتباك، محتويات الحقيبة، منتشيا وبنذالة السافل، بمشهده وهو يلتفت بين لحظة وأخرى، خوفا من أن يربت على مؤخرته هو الأخر. 

قرر ومن دون تردد، الفرار من المكان والذهاب مباشرة للمطار، عسى أن يتمنكن بالرشوة إقناع من بمقدوره تقديم موعد سفره نص نهار، للتعجيل بعودته، قبل أن يطكّ من القهر أو يمضي وطوعا نحو مقبرة الشماعية.      

كان على وشك أن يستدير صوب المعاكس من الاتجاه، حين عاد يمتطيه وفجأة ، نذل التردد، ليقوده معلون التبرير ومن جديد، للرضوخ والتراجع عن عزمه، بعد أن راح يستعيد وبنشوة العاجز، توصيف السياب لمن شفة البغي وأجنحة الذباب أنظف منهم وأشرف، ليعود ويسلم قياد م قياده فكره، لوهم الاعتقاد، أن صيته الذائع على شبكة الانترنيت والفضائيات والصحف، وما أصدره من عديد دواوين الشعر، ومتميز حضور مهرجان للإبداع والحضارة، كفيل هذه المرة، بتجاوز كل ما واجهه من مهانة تجاهل مكانته في عالم الشعر، وتبديد الكثير مما تراكم في أعماقه من قاتم الصورة والتصور طوال الماضي من مرير  الأيام . 

كأن شيء لم يكن، عاد يمشي شايف حاله صوب القاعة. عند المدخل صافحه أعضاء لجنة الاستقبال بفتور واستهانة ، كما لو كانوا يجهلون بدورهم من يكون، أو يتعمدون تجاهل من يكون، في حين كانوا يستقبلون سواه بالأحضان والترحاب مرددين بخنوع :  شرفتنا مولانا ...تفضل مولانا، وكما أعتاد دائما أن يتعامل الدون من الناس مع أهل النفوذ والجاه.

لم يدخل القاعة.استند بظهره للجدار، واقفا في مواجهة ذليل الفئران، متجاهلا الساذج من معالم الدهشة على ملامحهم، والمشترك من بليد حركة أياديهم التي تأمره وبإلحاح فض للدخول، فيما ظل يحدق باتجاههم ببلاهة مشغول الفكر، بسر تحول يومه الأخير لكابوس من الغيض والغضب بعد أن تعرض ومن جديد لمهانة التفتيش وفض التجاهل، وهو الذي كان يعتقد جازما، ساعة أن غادر البيت صباحا، أن كل شيء سيجري بمنتهى البساطة واليسر، ليكون هذا اليوم بالذات، مغايرا تماما عن مرير ماضي الأيام، بحكم أن مشواره ما كان يتعدى حدود استلام قرار التقاعد وزيارة ضريح كّهوة المعٌقدين وتناول الغداء في إحدى مطاعم شارع السعدون ومسك الختام قراءة ما كتب من القصيدة في المهرجان، لينام بعدها جم ساعة قبل أن يعود أدراجه من حيث جاء في فجر اللاحق من الصباح. 

في صدمة تلك اللحظة، ما عاد يجدي نفعا، وهم الاعتقاد ومعسول التبرير ,ولا بمقدور حشود قصائد السياب، إنقاذه من وجع التعرض للإذلال وهذه المرة عند مدخل مهرجان للثقافة، كما لو أن عاثر الحظ تعمد أن يطلق رصاصة الرحمة على ما ظل يراوده من الأوهام، وما تبقى من ضئيل الأمل والحلم، وبعد أن ( يراويه) وحد الثمالة، فداحة ما أرتكب من الحماقة.

ظل واقفا ياكل بروحه من فرط  مشاعر الذل والهوان، فيما كانت تتملكه رغبة عارمة للانتفاض، ولكن دون أن يدري ماذا بمقدوره أن يفعل ليستعيد ولو القليل من مهدور الكرامة. كان لا يعرف غير عجزه عن مواصلة الصمت خانعا، دون أن يكون بمستطاعه الصراخ احتجاجا. صار بين البين، يمضي وعلى عجل صوب الجنون، وما عاد يملك من وحيد الخيار للنجاة... غير الفرار.

- طاح حظكم وحظ مهرجانكم. ردد في سره أكثر من مرة وهو يستدير بقصد الهروب من المكان.

- إستاد ...هاي وين رايح؟ سمع من يخاطبه بود لحظة أن تحرك مبتعدا. 

قبل أن يفكر بالرد، دعاه من ترتدي ملامحه الفضفاض من مصطنع الوقار للدخول للقاعة،  حين تجاهل الأمر، جره من معصمه برفق، وكما لو كان في موقع القريب من الصديق، ولم يطلق سراحه، إلا عند موقع جلوس الشعراء.

- بس وينك إستاد...توكّف ويه الزلم مو بنص الحريم. تدري هنا ما نحب نخلط، وعدنه حرام الاختلاط قال محذرا وأن كان بصيغة المزح، بعد أن لمحه يحدق للنافر من مثير مؤخرة ( وحده) كانت منحنية على الطريقة الفرنسية، بحثا عما تريد في حقيبتها اليدوية.  

- هذا منو. تساءلت باستياء كاذب صاحبة المثير من المؤخرة، بعد أن (طخها) من غير قصد، وهو يتخطها للوقوف أمام أحد الشاغر من المقاعد.

- أكيد شاعر سلابات من أهل بره، وما يعرف الأصول. ردت من تقف جوارها قبل أن تضيف بمجون: وحضرتج جان لازم أتنحين... من عده وراج.

- وداعتج جنت أريد أطلع محرمة. قالت بغنج كما لو كانت تدعوها لمواصلة هذا المثير من التلميحات.

- اللي يسمعج يكّول چايه كّبل من السرير ...شكّو عليج عمي ....تعلمتي على شغل بره  ...من مهرجان لمهرجان ... وحكم المحارم... ليل نهار..... والله أخاف عليج.... صار عندج إدمان . ردت، لتضحكان معا بمجون هيفاء وهبي.

تجاهل ما سمع من الشتيمة، والمثير من التلميحات، وكان على وشك الجلوس، حين أنطلق جميع من في القاعة بما في ذلك الأطفال يصرخون وبغضب:  كّوم ...كّوم..دير بالك تكّعد. نفذ الأمر خانعا، دون التفكير بالسؤال عما يحول دون أن يكّعد، أو مبرر وقوفهم جميعا جوار مقاعد شاغرة مكسورة الخاطر، كانت تتوسلهم ولخاطر الله... الجلوس، طمعا بدفء المؤخرات، للخلاص من ملعون لسعات برد كانون.

واقفا ترك زمام فكره للانشغال بالبحث عن سبيل النجاة من مأزق تواجده وحيدا في هذا الغريب من المكان، فيما راح بصره يجول محدقا بوجوه الواقفين جواره، متمنيا أن يوجد بينهم أحد معارفه من الشعراء، أو من يعرفون مكانته في عالم الشعر. لم يشاهد غير غريب وجوه، من خمنهم الباقي من صبيان زمان عمو صدام، بعيونهم التي كانت تكاد أن تغادر محاجرها، لفرط البحلقة بقلق صوب جميع الجهات، كما لو كانوا يحذرون غدر المجهول من الأشباح، أو لا يزالون يخافون سوقهم لحروب الشره من المقابر، أو ربما يتجنبون التحديق بوجوه بعضهم، خشية من أن يكون ذلك وشرعا من المحرمات. 

لم يستسلم. عجزه عن العثور على من يعرف من الشعراء أو من هم قرين العمر، ما قاده للتراجع. على مدى البصر، راح يبحث عن المنقذ في المختلف من أرجاء القاعة. لم يشاهد غير حشود من قاتم السواد: لحى, عباءات، جدران, محشورة بفوضى وسط سوق للهرج، تغتصب فضاءه بليد ثرثرات محمول أجهزة هواتف من كانوا يقفون طابور مرحاض، مجاور كشك لبيع الكباب والشلغم وهم يتنافسون على العياط، كما لو كانوا جميعا يعانون من وجع البواسير، أو بات الصراخ عندهم ، وحيد السبيل لتأكيد الهزيل من الذات،

لم يسلم قياده لليأس، ظل وبعناد المغصوب، يتلفت بحثا عن المنقذ، كما لو كان يحاول عامدا، إشعال البصر والذهن ، بما يساعده على الخلاص من محنة التواجد بين من كانت تفضح وجودهم ، غليظ شتائمهم وسفاهة ضحكاتهم ورخيص عطورهم وكريه روائح ما يأكلون من لفات الطعام، وكما لو بات جل هدفهم، إرغامه على أن يظل مقيما بينهم بجميع حواسه،ليشاهد ويسمع ويشتم ويتنفس، مخزي وجوده مرغما في المرحاض من القاعة.

- لك ...ليش شايل خشمك وتلف برأسك مثل المصرع، شنو ماكو أحد مالي عينك . خاطبه من يقف خلفه باستياء وغضب، وكان على وشك الرد لتبديد سوء الفهم، حين تناهى لسمعه من يعقب بشبق واحد حلاوي من أهل الزبير : حبيبي لا تعب روحك وتعتب، شوفه شكّد ناعم، جنه مره وطالعه من الحمام، هذا من يوكّف كّدامك ، غنيٌله( حبيب أمك) وبحكم الشرع والقانون... لو تطبكّ عليه... لو تضربها على طيزه ...ثواب.

- أنجبوا ولد الكّحبة. تملتكه راغبة جامحة للصراخ، بقصد قمع ما تواصل من حصار سخيف الضحكات وسفاهة التعليقات، بعد أن راح المزيد يشاركون في التصنيف على هذا (المنيوك من أهل بره) طمعا بحصد أكثر ما يستطيعون من رخيص ضحكات الجالسات في صف الشعراء وغير ذلك من سخيف دوافع السفهاء، وتماما كما كان يتكرر خلال مرير الوقوف في طوابير الانتظار،  ساعة ما كان أهل الرعونة يتنافسون على ترديد مبتذل تلميحاتهم وهم يتطلعون بشبق مفضوح للواقفات في طابور النساء، وكما لو أن هذا المشين من السلوك، بات يندرج في حكم مألوف العادة، أو من قبيل المستحب من الفعل... شرعا.

- أنجبوا ولد الكّحبة. من جديد فكر بالصراخ، بعد أن ما عاد بمقدوره سماع المزيد من الشتائم، أو كما لو كان يريد الفرار من ذل تقريع الذات، لفرط ضحالة اعتقاده بالمغاير من جمهور مهرجانا للحضارة والإبداع، ليكتشف وسريعا مدى رداءة معدن وطباع الجالس وسطهم من غريب الملوم.

- دير بالك أتكّول آخ... أبلع شتايم وأنت ساكت...والله بس تفتح حلكّ ... يطروكّ أربع طرات...علمهم مشعول الصفحة على الطر... وراح يشتغل عند ربك ...طرار بجهنم. داهمه أبو تأنيب بمفاجئ حضوره ولبرهة خاطفة، لمجرد تحذيره من سوء عاقبة الرد أو الصراخ.

نفذ الأمر دون اعتراض. ما كان في تلك اللحظة، بحاجة لتقريع أو تحذير أبو تأنيب، بعد أن أدرك مرة أخرى، عبث التعويل على الوهم، وما يختلق من بليد التبرير. أختار وطوعا أن ينحني بخنوع العاجز، ليمتطيه ملعون الندم، دون أن يبالي، بشبق نظرات من فاجأهم مشهده وهو يتنح فجأة، كما لو كان يدعوهم للقيام بالواجب، أو يتحداهم بغريب ما فعل، للسخرية منهم وبغضب من يريد مخاطبتهم بالقول : أنجبوا ولد الكّحبة.

لبرهة قصيرة ظل يسمع مرغما الوقح من شتائمهم، والمفضوح من رذيل تلميحاتهم الجنسية، إلا أن راح وتدريجيا يتلاشى القبيح من منكر أصواتهم، بعد أن نجح في الفرار ذهنيا عما يحاصره من مرير الموقف. لحظة أن عاد فاردا طوله ليتابع عامدا وبتركيز شديد مشهد الأطفال وهم يتراكضون بصخب وضجيج في إرجاء الطُولة من القاعة، دون مبالاة بما يلاحقهم من صرخات التهديد والوعيد التي تدعوهم ومن غير جد، للكف عن الوكّاحة.  

كان كثيرا ما يعتمد هذا الناجع من السبيل، وبالذات عند الجلوس وبالغلط في المقهى أو البار وسط من يتصايحون مثل الزعاطيط جراء الاختلاف حول سخيف معروض الفضائيات. ما كان يحتاج غير أشغال الذهن بأمر طعام العشاء أو تركيز بصره في نقطة وهمية على سطح ما يواجهه من الجدار، تاركا لملامحه مهمة تأكيد حضوره، وكما لو كان يسمع باهتمام ما يرددون من مقرف الثرثرة، موقنا أن لا أحد سيكلف نفسه عناء السؤال عن وجهة نظره باعتباره واحد بربولسز وجاهل في علوم القنوات الفضائية.  

ملاحقة صخب الصغار، شغله تماما عما يحاصره من غليظ القول، وبعيدا عن قرف وجوده الشاذ، في المكان الغلط  ووسط الغريب من الناس، ولكن فجأة أنصرف ذهنه للتفكير وبقلق عما بمقدوره أن يفعل لمواجهة سالب ردود الفعل الجالس وسطهم من الطراطير في حال استقبلوا ما كتب من القصيدة بالازدراء أو ربما العفاط..

هذا المفاجئ من الهاجس، سرعان ما بات مضاف السبب، للتفكير بمغادرة القاعة دون تأخير وقبل فوات الأوان. في تلك اللحظة عاد يستعيد مخزي وقائع ما عاش من مرير التجربة يوم كان محلقا في فضاء الشعر يقرأ قصيدة في مهرجان للثقافة، حين أمره عريف الحفل، وبفضاضة المنصور، ترك المنصة بساع، فيما كان يكرر وبذل اللوكّي : تفضل رفيق ....  مخاطبا سياسي مخضرم بعده عايش ...مومياء مهزوم من المتحف، كان خطيه في وضع محصور خطاب، وما عاد بمقدوره انتظار دوره، لكي يزرب بالقاعة.... شعارات.

- لازم أطلع وبساع. ردد في سره أكثر من مرة، كما لو كان يحاول من خلال التكرار، تجاوز ذل العجز عن الفرار، حتى بعد أن بات البقاء محشورا بين هذا الحشد من الطراطير وفي سوق للهرج والضجيج، ضربا من أكيد الانتحار. 

بحذر وبطء، أطلق سراح البصر مغادرا جلد بائس النعامة، دون أن يتوقف عن تكرار ( لازم أطلع) بتصميم راح يتصاعد لغاية أن حسم أمره في النهاية وهو يستدير دون تردد لليمين بقصد الخروج، عندها فقط شاهد وفجأة، رجلا قرين العمر، يقف جواره، متطلعا نحوه ببلاهة الفضول، مقطبا حاجبيه كما أعتاد أن يفعل جميع من يتصنعون مزعوم الوقار، أو كما لو كان مصعوقا بدهشة مشاهدة كائن خرافي، من كوكب أخر غير الأرض.

كما أعتاد أن يفعل دائما، باشر ومن غير تردد، خوض معركة كسر العين، لحظة باغته الرجل محدقا باتجاهه، بسفاهة الفضول والدهشة، دون أن يدري بليدا، أن عاثر الحظ قاده للسقوط في هذا الفخ، ليتجرع مرارة الانكسار في مواجهة من يملك مهارة إرغام المقابل من الضحية على التراجع وتحويل اتجاه بصره مهزوما، بعد أن يظل يحاصره بثابت كما لو كان يتطلع نحوه بالشديد من التركيز، فيما هو يتجاهل وجوده تماما، سارحا بالصفنة، خلف نقطة وهمية على جدار من كالح الأسمنت وبليله ظلمه. 

- أشوفك تبوع ضايج وجن مرادك توكّف بصفك وحده متعه، متعوده تكتب شعر تالي الليل.....أقصد من يحييها صاحبها الوحي...حتى لا يروح فكرك لبعيد. قال الرجل ضاحكا بصخب من يريد تجاوز هزيمته أو كما لو كان في وارد مباشرة التصنيف مع القريب من الصديق.

تجاهل ما ردده، باستهانة وزهو من نجح في كسر عينه، راسما على ملامحه ما يكفي من علامات التذمر، وكان على وشك تنفيذ فكرة مغادرة القاعة، حين عاد من جاوره دون أن يدري متى، للسؤال وبذات القدر من السفاهة:منو حضرتك ...؟ قال بجد هذه المرة، وقبل أن ينتظر الرد، أضاف مازحا بالمصطنع من الود : ماكو داعي اتعب روحك بالرد ...جعب أستكان وبيريه والجنطه على الجتف ...أكيد جنابك من أهل بره، لو جاي بالغلط إيفاد من وره السده. قال وهو يعود للضحك بسفاهة الرقيع من الناس. 

لم يعقب. ظل يتطلع نحوه بذات القدر من التجاهل والقرف، بعد أن ما عاد بمقدوره تحمل المزيد من سخيف سؤال ( منو حضرتك) وغير ذلك من تساؤلات فض التجاهل والتي تنافس جميع من التقاهم وبتوافق غريب، على سفاهة تكرارها لتأكيد عدم معرفتهم بمن يكون.

- الأخ إنكليزي. قال ساخرا بعد أن طال صمته، قبل أن يضيف بصفاقة من يريد إرغامه على الرد عنوة:  شنو القضية أخونه .... هشو ...بعدك تبوع مدهوش وأنت ساكت. تساءل وهو يمد يده لمصافحته قائلا :....داعيك وحشه كّدرك شاعر شعبي والزمن شادي. قال العبارة الأخيرة بمرارة وهو يتصنع الباهت من الابتسامة، ودون أن يفصح عن أسمه وكما لو كان يجره عامدا لموقع المحتار.

بتردد مد يده قائلا وبازدراء: تقصد شاعر من زمان القادسية. نطق أخيرا دون أن يدري ما دعاه لقول ما ينطوي على حماقة الاتهام سلفا.

- لا ....حبيبي ...بزمان القادسية ما ظل من الشعر غير ...شكّد أنت رائع سيدي.....لا... أقصد أيام كّبل ما يركبنا الدوني أبن صبحه...يوم جان الشعر ...شعر ...مو خريط حلكّ صخل ...بعرور، والقاعة طوُله وشوفت عينك...( وهو يشير بالبصر للحضور) صارت مزعطة وبس عوزها بن جيجان يكّعد بنصهم...يدكّلهم .... الله يخللي الريس ...حتى أتشوف هز الجتف والطيز من صدكّ. رد بشيء من الامتعاض قبل أن يتساءل وبفضول من جديد : وحضرتك ؟

- صدكّ ما تعرف...رد باستياء وهو يذكر أسمه بغرور من كان لا يزال يعتقد جازما أن المنشور من كثير قصائده مرفقا بصوره في الصحف ومواقع الانترنيت وتكرار ظهوره في الفضائيات صيرته مشهورا وخصوصا وسط أهل الأدب، ولكن الرجل لم يبادر للاعتذار كما توقع، وإنما ظل يتطلع نحوه بذات القدر من الفضول، قبل أن ينفي معرفة من يكون، بحركة مشتركة ما بين الملامح واليدين.

- حتى أنت يا بروتس. عقب بغضب واستياء اليقين من أن الرجل يتعمد وبصفاقة تجاهل من يكون، ولكن سرعان ما امتطاه الندم، بعد شاهد على ملامحه وبوضوح، احتجاج من يعرف تماما مغزى ترديد هذا الشائع من القول، ولكن دون أن يبادر للرد ، كما لو كان يستنكف الحديث عن شكسبير في هذا الغلط من المكان، أو ربما كان معتادا على تجاهل ما يسمع من غليظ القول.

- قصدي ...معقولة شاعر وما تعرف، كان على وشك القول متراجعا بلباقة، ولكن عوضا عن ذلك مد يده لحقيبته بقصد إطلاعه على نسخ من دواوين شعره، غير أن الرجل أسرع للقول بارتباك وقلق: هاي شدتسووي .......أتريد اجيبلنه شبهة...يخليك الله... أستر علينه ولا تفتح الجنطة...ترى بس يشوفوك ربع يزيد...هاي اللي الله كاتبها عليك ...عبالهم ّ أتريد أطلع طكّاكّة وتفجر القاعة ....وتعال خلص روحك من ضرب الكفخات والدفرات. ردد كل ذلك وهو يشير ببصره وبخوف لدينصورات من مخلفات زمن الزيتوني، تراقب ما يجري داخل القاعة بعيون ...دير بالك ..تلعب بذيكّ ...بزون.

- مختصر مفيد ...كّول شاعر وخلصنه... قال الرجل بلهجة الأمر قبل أن يضيف متسائلا : تكتب للناس لو من ربع نحباني لالو.

- قصدك؟! 

- أقصد شعبي لو معلقات؟ عاد ليؤكد جهله بمن يكون وهو الذي تصوره يتعمد تجاهل مكانته بين الشعراء.

- من ربع نحباني لالو. رد ساخرا وهو يدير وجهه تعبيرا عن عدم الرغبة في مواصلة الحديث،  مردد وبصوت مسموع دون قصد : مستحيل أبقى ...لازم أطلع ...كّبل ما أزوع. كرر ذلك أكثر من مرة مخاطبا مهان الذات، أو كما لو كان يحاول من جديد تجاوز عجزه عن تفعيل قرار الهروب من القاعة وقبل فوات الأوان .

شنو ؟! تساءل الرجل بدهشة.

لم يرد على شنو الرجل والتي كررها أكثر من مرة وهو يعود للقول ( لازم أطلع بساع)  بحزم من يخاف أن يفقد قدرة  كبح جماح المتحفز من اللسان، للتعبير عما يعتمل في أعماقه من وجع الندم والنقمة والسخط.

- شنو ...عاد الرجل للسؤال بذات القدر من البلاهة.

من جديد تجاهله وهو يحاول أن يتخطاه باتجاه الخروج، وكان على وشك أن يفعل ذلك حين أمسك الرجل بمعصمه دون رفق قاطعا عليه سبيل المغادرة، كما لو تحول بدوره لبسطال زيتوني قبل أن يقول موضحا: هاي وين رايح ...كل عقلك ربع يزيد يخلوك تطلع قبل ما تخلص الحفلة.ردد ذلك محذرا  وهو يجتاحه بنظرة تنطوي على الأمر لا الرجاء. 

- بس والله.. راح أختنكّ وأريد أزوع. رد بقرف وغيض من بات عاجزا عن تحمل المزيد من تقريع الذات وخشية مما سيجري نشره في الصحف عن فضيحة زواع شاعر في مهرجانا للإبداع والحضارة. 

- عزيزي ...زوع وأختنك بمكّانك... هواية أحسنلك ...ترى ماكو أسهل على ربع يزيد ... يجروكّ للتحقيق حتى يعرفون ليش تخالف التعليمات وأتريد تطلع ساعة كّبل....وشحدك تفتح حلكّك حتى تقنع المطي... جنابك أتريد تشتم هوا، وما عايف وراك طكّاكّه،....وتعال عاد ...خلص روحك من أربع إرهاب. قال بمنتهى الجد محذرا قبل أن يضيف بلسان الجزم: لا تعاند ...أسمع كلامي وخليك بمكانك ولا تبهذل روحك.

نفذ الأمر مرغما. عاد يستسلم بخنوع لمحنة البقاء حيث لا يريد، محشورا ما بين التأنيب والتقريع، ذليلا مكسور العين ،لا يملك غير تكرار، رثاء مزري الحال، بعد أن بات عاجزا عن اختلاق المزيد من أوهام التبرير، يطارده دون رحمة ذات المرير من السؤال عما دعاه لممارسة حماقة العودة وهو المعطوب الكبد غما وهما، ومسك عار الختام، بليد موافقته على المشاركة في مهرجان للتهريج.

هربا من عذاب ووجع السؤال، أنهمك بالتفكير بحثا عن عذر معقول، يفيد إقناع رجال الحماية، الموافقة على مغادرته القاعة بسلام.

- تعتقد ورقة خضره تفيد. كان على وشك السؤال حين قال الرجل متذمرا: شرف بعد...لو رجلينه لازم أتسوف من التعب بانتظار حضرة جنابك، ردد ذلك وهو يلتفت المرة بعد الأخرى لمدخل القاعة.

للمرة الأولى يسمع من يمارس التذمر، لطول أمد الانتظار، خلاف جميع من شاركهم الوقوف لساعات طويلة في الطوابير، ممن كانوا يمارسون هذا المقرف من كريه الفعل، باستسلام غريب، ومن دون ضجر أو تذمر، كما لو بات طول الانتظار، يضفي على حياتهم المطلوب من المتعة، أو ربما صيرهم تعود طول الصبر، حميرا للبلاهة بامتياز وتفرد.

- خطيه .. ما صدك...ّ - عاد يضيف ساخرا-  الناس غصب صارت تنتظره يحي وجايب وياه الطماطة .قال وملامحه تدعوه لمشاطرته الضحك على ما ردده من الطرفة، ولكن حين وجده يتطلع نحوه بفضول من يجهل المقصود أضاف موضحا:  أقصد الرفيق أبو معجون. قال هامسا ودون أن تكشف تقاسيم وجهه عما يضمره من القصد، تاركا إياه ينهمك في البحث، عما إذا كانت  العبارة من قبيل الجد أو بقصد السخرية .

- المسكين ...محروم جاه وكشخه، وبطرك شهادة ( شلون تموت وأنت من أهل العمارة) ....ومن يوم ما سووه نقيب بعد ما كّتلوا تاج راسه...صار كل أسبوع يسووي جالغي...والتكاليف على حساب فرهود حكومة... ويكّلك والعباس ...بفلوس حصة بني لملموم من نفط المجنون. قال وهو يعود من جديد للضحك بصخب قبل أن يلحس فجأة كل ما ردده من غليظ القول ومشين التوصيف قائلا : هيج الناس أتكّول.

لم يعقب. فضل أن يمارس دور المحتار، وأن كان يعرف من المقصود بالتلميح، متوقعا المزيد من التوضيح ولكن عوضا عن ذلك راح الرجل وبعد لحظة صمت وجيزة، يثرثر عن كيف يجري نقل المطلوب حضورهم للمهرجانات مع أطفالهم، مجانا ومقابل وجبة عشاء يجري في ختامها توزيع الملاعيب على الصغار بالقرعة من قبل النقيب أمام عدسات التصوير وكاميرات القنوات الفضائية.

- مختصر مفيد ... – قال موضحا-  أيام مشعول الصفحة جانوا يجيبون الناس بضرب القنادر، هسه صاروا يجروهم جر ... بالتمن والقيمة لو بلفات البيض والعنبه والطرشي... بعدهم خطيه دروازه قزوين وما يدرون... الدنيا صارت كّص وهمبرغر والتريوعة.... ببسي. ردد الأخير من العبارة ضاحكا بفرح وصخب اكتشاف ما يملك من متميز القدرة على اختيار المناسب من ساخر التوصيف. 

من جديد أختار الصمت ولم يعقب. تمنى لو بمقدوره أن يفعل ذلك، طمعا بالمزيد من التفصيل عن ما ردده عن تحشيد الناس بالقوة أو بالتمن والقيمة، ولكن خوفا من عاقبة المشاركة في هذا الغليظ من مفضوح المقارنة بين الماضي والحاضر، قاده للتمسك بالوقوف خلف ظهر الحذر،  خشية من أن يكون هدف الرجل جره بالحيلة، للكشف عما يضمر من الموقف، للفوز وقبل غيره بمبادرة الصراخ: إرهابي، طمعا بالحصول على إكرامية أو ربما ما لا يزيد عن (جم عفيه) يرددها على مسامعه من سماه ساخرا الرفيق أبو معجون.

بدافع سوء الظن، والخشية من عاقبة الكشف عن سالب مواقفه من كلشي وكلاشي أمام من جاوره بالصدفة، تعمد تغيير دفة الحديث متسائلا عن مبرر عدم وجود أحد أمام شاغر مقاعد الصفوف الأولى في مقدمة القاعة .

- حقك تسأل ...غريب وما تعرف أصول الحفلات....شوف عيني ....الصف الأول محجوز للنقيب والحوشيه والثاني لعناصر الحماية والثالث للحجية أم معجون وضرايرها ونسوان الحوشيه والرابع للكّرايب من ولد عشيرة بني لملوم. رد موضحا بخبرة مدمن مهرجانات قبل أن يضيف بمزعوم الامتنان: أشكر الله ...يكّعدونه بالصف الخامس... يعني حالنه يظل هواية أحسن من حال الفنانين ...اللي يكّعدوهم خطيه بجعب القاعة.... بخانة الشوادي . ردد ذلك وهو يواصل الضحك دون توقف كما لو كان مدمن ضحك أو واحد دريع متعود على السفاهة.

من باب الحيطة ظل يستمع بصمت، مبتسما بحذر بين لحظة وأخرى، متجنبا حماقة مشاطرته فيما يردده بين الجد والهزل، من سالب القول، عن وحول كل شيء، منهمكا بالتفكير وبجد عن مناسب العذر، للتخلص من مخاطر مجاورة الرجل، وكان على وشك أن ينتقل  للوقوف  أمام مقعد أخر حتى من دون توضيح، حين شد بصره وفجأة، حبل طويل يتدلى من سقف القاعة لما يرتفع قليلا عن سطح منضدة المنصة.

ساخرا فكر بالسؤال عن من سيجري شنقه بعد نهاية المهرجان، ولكن قبل أن ينطق عاجله الرجل، وكما لو كان يترصد بخبث الشرطي ما يجول في خاطره : شنو ما شايف بحياتك حبل مدندل.. يروح ويجي براحته... سكران. قال ضاحكا قبل أن يوضح:  هذا حبل المرحوم الخطاط ...علكّه بالسكّف وراح يجيب اللافتة من البيت......المسكين راح وما رجع... خطيه قبل نص ساعة أنطاك عمره ، جان راجع للقاعة وطكّت بصفه سياره وصار وذره ...وذره ..وما أدري أهله شراح يودن بنعشه للكّبر. قال بحياد المعتاد على الموت، أو كما لو  كان يتحدث سفيها عن بعير ضل طريقه وراح بكّراعينه غلط ...للمصلخ.

فكر بالاحتجاج على الحديث بكل هذا القدر من الاستهانة والتبسيط مع موضوعة مقتل الخطاط، ولكن سرعان ما تجاهل الأمر، بعد أن راح وبعد طول الغيض، يتابع ضاحكا البائس من محاولات التخلص من ممدود الحبل، بعد أن تطوع أحدهم للصعود  فوق الميز، وبلش يدندل بالحبل مثل طرزان، ولم يتوقف عن اللعب إلا بعد أن تعالى صراخ جميع من في القاعة : لك ...لا تجر الحبل ...والله راح تنزل السكّف علينه وتموتنا وفروخنه ناقص عمر.

- ولد الطراكّ عوفوا الحبل ودوره على الدرج . صرخ من كان مظهره وما أصدره من صارم الأمر يكشف عما يملك من السطوة، وبحيث راح الجميع يتنافسون على تكرار صرخة (وين الدرج) دون أن يتحرك أحدهم للبحث عن مفقود الدرج، كما لو كانوا يعتقدون وبراسخ اليقين، أن صرخاتهم سوف ترغم الضام روحه خوفا أو ربما قرفا، ترك مكان اختفاءه، ليكون ومن جديد رهن إشارتهم.

في تلك اللحظة، ووسط فوضى الصراخ عن الحبل والدرج، لمح المكتوب من فاضح الخطأ في لافتة الترحيب والمخطوطة على كرتونة معقجة، بديلا عن الضحية من مفقود اللافتة.

- شوف ...الخطأ الشنيع ...كاتبين (حضرت) النقابة والنقيب بالتاء الطويلة مو المقصورة ...اللهم لا اعتراض يخاطبون النقيب شلون ما جان، بس هاي وين صايره يكتبون ( حضرت) النقابة وجنهم يخاطبون طلي من لحم ودم. قال بغضب ودهشة المستاء من ارتكاب هذا الفادح من الغلط وفي مهرجان للإبداع والحضارة.

- الله وأكبر عليك ...بساع ...سوويته شنيع وفظيع... وجنك ما تعرف ...أبد ماكو فرق من تسمعها لو تقرها ...إن جانت طويلة لو ملفوفة. عقب الرجل باستياء قبل أن يضيف محذرا : خليها صنطة ودير بالك وياك وتعيدها.... والله تشبع نعل وفشار،لان الخاتون مسؤولة الايجات بالنقابة هي اللي خطت اللافتة بيدها الكريمة، وشحد الواحد يعترض. قال وهو يشير  ببصره باتجاه من كانت تقف بترهل البرميل وسط ربع يزيد، ربما لتكون في مقدمة من سوف يستقبلون النقيب عند حضوره.

كان على وشك السؤال فضولا عن أسم الخاتون، حين عاد ليضيف وبتأنيب واضح:  ما أدري ليش تشغل بالك وتعذب روحك بهاي السوالف المكسرة، تحجي على التاء الطويلة والملفوفة وجنك نازل علينه من السما .........حبيبي يا لغة... يا بابطيخ ....أقره خريط  المنشور بالجرايد ودكاكين الانترنيت لو شوف فضائيات ....حتى تعرف شسووا بالمسكية.. ....والله بهذلوها وشكّو طيزها بالبعابيص... ويكلك آحنه أهل لغة الضاد ومن حقنه نلعب... لعب بطروكّها... ولمعلومك هيجي كّال واحد جربوع أبو دوده صار على غفله...صحفي وكاتب وأعلامي  ...يوم ما كّللوه معود على كيفيك... مو نعلت أبو الجار والمجرور ... وحضرتك أتريد من وحده جانت طفي الضوه والحكّني...ماجدة... وبعد ما صاح الصنم صارت صوحفية  ..تعرف الفرق تالي عمرها بين الطويلة والملفوفة...والله حرام عليك وما عندك أنصاف ... لو ما تدري ...ربك يكّول ...يسر ولا تعسر. قال بما ينطوي على السخرية في الظاهر، ولكن على ملامحه كانت ترتسم علامات منتهى الجد، كما لو كان نموذجا للارتباك وعدم الاتزان، ويهذر بما لا يعرف ، أو أن ذلك يندرج عنده في إطار المألوف من نمط التعبير.
ما أثار دهشته أن الرجل ردد كل ذلك تلقائيا وعفو الخاطر ، وباستياء من لا يريد سماع المزيد عن هذا الأمر، ويكاد أن يقول: بوع وأنت ساكت، وكما لو كان معتادا على ممارسة هذا الشاذ من المراوغة ما بين الوضوح والغموض، والجد والهزل ، ولكن من غير أن يعرف ما إذا كان يفعل ذلك، بقصد عدم الكشف صريحا عما يضمره من الموقف، أمام من لا يعرف من الناس، أو لمجرد الفوز بمتعة دفع الطرف المقابل للإنصات ..أثول... في موقع المحتار.

هكذا تصور الأمر محكوما بسوء الظن، وأن ما عاد الرجل بمنظوره، مجرد واحد غشيم لا يجيد غير عبث الثرثرة، كما كان يظن في البداية. مظهره في تلك اللحظة، بدا أكثر غرابة من قبل حتى بات تدريجيا يميل للاعتقاد أن هذا البائس من الشاعر، يفتقر للتوازن نفسيا، ولا يملك عقليا، وبحكم ترهل العمر، غير شحيح القدرة على تحديد الموقف من الغلط والصواب، بعيدا عن المراوغة، كما لو كان صاحب أكثر من لسان، ويحمل فوق كتفه، جمعا من الرؤوس.

- خطيه. ردد في سره، بعد أن غادره الشك والحذر، وبات حال المسكين، مدعاة للرثاء والشفقة، وكان على وشك الاعتقاد أن ما يعتمده الرجل من المراوغة، وما يردده من متناقض القول، ربما يكون مرده، ضمور الوعي، لطول أمد العيش تحت وطأة القمع، ولكن سرعان ما تراجع عن هذا التصور، بعد أن طفح في ذهنه وفجأة المغاير تماما من الاحتمال: ترى ماذا لو كان الرجل يخوط ويخربط وبكل هذا القدر من الغموض والتناقض والابتذال ومن غير حرج، بفعل نشوة ما غيب عقله، عن توخي مخاطر ترديد غليظ القول والتوصيف على مسامع من جلس جواره بمحض الصدفة.

كان لا يزال منهمكا في البحث عما يبدد دهشته من سرعة تقلب مواقف الرجل، وغريب إصراره على ترديد النقيض من القول، ما بين الجد والهزل، حين ما عاد يهمه ما إذا كان الواقف جواره، محشش لو سكران، أو معتاد على الهذيان من غير حيطة وبلا حذر. فجأة بات يحاصره هاجس الخوف من عاقبة ما يردده على مسامعه من محظور العبارة، متجاهلا جميع من كانوا يتابعون بانتباه وعيون الذئب، ما يدور من الهمس، بانتظار أن تلتقط الوسخ من آذانهم، ما يدعوهم للصراخ، وفضح ما يجري ترديده من غليظ ومشين التوصيف، موقنا أن الرجل بمقدوره وبسليط لسانه أن يتملص ويخلص روحه بمنتهى اليسر،ليكون وحده في مواجهة الكفخات والدفرات، وهو الذي ومنذ أول لحظة الدخول للقاعة، بات موضع ازدراء جميع الجالس وسطهم من الطراطير، بعد أن صيروه مجرد واحد منيوك من أهل بره.

دون تردد قرر أن يترك محل وقوفه ، لتجنب مخاطر مجاورة هذا المصيبة من الرجل، و قبل أن توكّع الفاس بالراس. كان لا يزال منهمكا في البحث عن مناسب العذر لتغير مكان الوقوف، حين فاجأه متسائلا وبشيء من الامتعاض:  

- أشوفك بعدك... شما أكّول... تبوع مدهوش ، وأكيد بسرك أتكّول، داعيك لو محشش لو سكران. قال وكما لو كان يطالع ما يدور في خلده، وكان على وشك الرد زاعما النقيض حين  عاد الرجل للقول وبذات القدر من الوضوح: حرام  تجبر روحك وتكّول كذب... لا.

- ماكو داعي للكذب.....اللي يسمع حچيكّ أكيد يكّول: معمر الطاسه... سلطان زمانك... والله يساعد اللي يكّعد على لسانك. بس ما أعرف ليش تحجي وجنكّ ذابها على السطور، وعلى غفلة تلبس درع هيجي الناس أتكّول وتهمس صنطاوي وبس باقي طبب راسك بأذاني. قال بود الحاسد وبما يفيد الاعتراض.

- الحذر واجب بس مو ويه الحبايب. رد ضاحكا بود قبل أن يضيف موضحا: قصدي ومن غير زعل...حضرتك من أهل بره وما ينخاف من عندك...لو جنت صاحب جاه وسطوة جان مكانك محفوظ ليكّدام وما توكّف بصفي مجبور. قال بشيء من الحرج قبل أن يضيف وبجازم القناعة: وإذا على سالفة معمر الطاسه...لمعلومك الناس بعد الضيم والقهر والحروب ... جانت تعتقد يوم طاح مشعول الصفحة ... راح ترتاح وتعوض كل اللي فات..... النوب صار عزرائيل يركض وراءهم وين ما يروحون ...واللي ما يموت بالطكّاكّات صار يتمنى الموت ساعة كّبل ...مختصر مفيد حچاية... من كثر المرار ما ظل عند ولد الخايبه ... خلكّ أتعيش ولا عقل بالراس...والنوب أتريد... محد يشرب حليب سباع لو يجر نفس من المحروسة... چا أشلون الواوي.... اللي يصيح بالراس ليل نهار.. ينجب وينلصم بطوعه ..بس وينك ( قال جازما وبتأنيب )..داعيك  ....بهاي الساعة... لا محشش ولا معمر الطاسة. ردد ذلك بأسى وهو يلوذ بالصمت.

- إذا على سالفة الحچي – عاد للقول فجأة- ترى يا هو اللي تلزمه يحچي مثلي وأكثر.. تدري ليش ...لان الحجي بعده مثل ما جان ...لا يودي ولا يجيب ...ولا يروح فكرك بعيد وتعتقد غلطان... داعيك غير شكل.....صدكّني حالي مثل حال غيري.... نحچي صريح وعلى المكشوف...ومو مهم ... همس لو عياط ....بس ساعة الساعة ووكّت الفعل...البطانية تحكم وإذا فوكّها صوبه وورقة خضره ...واحدنه يبع أمه وأبوه حتى يحصل على لطعه من هريسة التصويت. قال كما لو كان مو حي الله واحد، ولكن دون أن يفهم ما دعاه لترديد تعويذة (حالي مثل حال غيري) بعد أن قال ما هو العكس ونقيض ما كان يردده  جميع من التقاهم مصادفة أو خلال ساعات مرير الانتظار في الطوابير، وكما لو كان يريد عامدا أن يتركه يراوح محلك سر في موقع المحتار.

محاصرا بملعون سوء الظن، صار الشك يساوره  عما إذا كان الرجل يجهل حقا، مغزى ما ردده من أخير العبارة، أو أن ذلك يندرج بدوره في باب المراوغة. ظل يبحث من غير جدوى عن الجواب إلا أن بات في النهاية ،لا يدري ما إذا كان يستوجب البقاء حيث يقف أو ينتقل للوقوف أمام مقعد أخر.

- هاي شلون ورطة. ردد في سره وهو يزفر متحسرا كما لو كان يحاول طرد ما يعتمل في أعماقه من مشاعر الحيرة والعجز حتى عن مجرد حسم أمر البقاء أو الانتقال لبضع خطوات بعيدا عن الرجل .

- ها ..... أشوفك رجعت أتجر حسرات أم ولد غركّان... وحالك مثل حال اللي واكّف جوه السما يبجي... والدنيا تمطر ..... يا هو اللي يشوف دمعته. فاجأه بالقول قبل أن يضيف ومن موقع الرثاء والشفقة : حبيبي ليش تعب روحك بالتفكير وأتجر حسرات.. أخاف عليك أطكّ من الوجع وما يخسر غيرك  ... وداعيك من كثر ما شاف... صار عراف...... ...مختصر مفيد حجايه:  أنت شكّو عليك...الله ربك .. كلها جم يوم وترجع من وين ما جيت ......داعيك شيكّول... راح مشعول الصفحة لجهنم وتعال عيش ودبر أمرك بنص فروخه من أهل العمامة زيتوني...أسمع نصيحة بلوشي ... لا تفكر ...ولا اتجر حسرات .. نعال الدنيا...  وما تسووه. قال بين الحزن والنقمة تاركا قياد سليط اللسان، لبرهة طالت من الصمت.

- ربك ما ينسى عباده. - صرخ فجأة بفرح-  ...خلص فرشوا الحمره ...معنها الافندي وصل وراح يبلش الفلم. قال وهو يشير ببصره لمشهد رجال الحماية وهم يفرشون سجادة حمراء على امتداد المسافة ما بين مدخل القاعة والصف الأول من المقاعد. 

- تدري - عاد يضيف ساخرا-  كّبل جان بس أبن صبحه يمشي على الحمره...تعرفه ...شاف ما شاف ...شاف... طيز طلفاح وأخترع ... هس صار شعيط ومعيط من ربع زيتوني عمامه...ما يفوت واحدهم للجامع لو المرحاض، إذا ما يفرشوها لجنابه... وهي اللي جانت بشرعهم حرام وما يدوسها غير الجائر من السلطان. ردد ذلك هامسا وعلى نحو مضاعف إمعانا بالمزيد من الحذر ممن سماهم ولد عشيرة بني لملوم الذين أسرعوا يحتلون ما يتقدمهم من صف المقاعد بانتباه واستعداد فصيل الإعدام.  

- صفك ...صفك. قال يأمره وهو ينهمك بالتصفيق بحماس الشباب فيما كان يتصاعد ضجيج الهلاهل والأهازيج والتكبيرات استقبالا لراعي المهرجان ، الذي كان يتعمد السير بخطوات بطيئة، كما لو كان يمتطي ظهر سلحفاة عجوز، لا تكاد تقوى على السير، رافعا كلتا يديه بالتحية، مرتديا جلد المنتفخ من الضفدعة، راسما على ملامحه، بليد تقاسيم ما يفضح فرط دهشته، وكما لو كان على وشك الصراخ منتشيا : هاي كلها علمودي.

- شوف...شوف.. شكّبر ضحكّته، وأشلون يفر براسه فرحان، جنه يريد واحد يبعصه، حتى يصدكّ صار من أهل الجاه والسلطان. قال الرجل قبل أن يضيف : وشوف هذا أبو الباروكة اللي يمشي بصفه، من يوم ما وده يجيب البربوك من المطار، صار يمشي صفح يفر بطيزه...  جنه علي شيش. قال مشيرا ببصره لمن كان يتبع ذليلا ما يتقدمه من الضفدعة.

- شوفه....شوفه... يمشي مخربط والحنطه سيمسون ...خطيه رجلليه ما متعوده على القبغلي...طول عمره جان يمشي نعال...... وبفلوس النقابة صار يتبختر وشايف حاله... أتكّول جنه شخبوط يوم ما طلع بير نفط جوه طيزه.قال كل ذلك وعلى فد جره ودون أن يرتدي هذه المره، درع هيجي الناس أتكول، كما لو كان يريد عامدا أن يقوده ومن جديد لموقع المحتار.

لم يعقب. ظل يمتطيه سوء الظن، عاجزا عن إدراك ما يضمره الرجل من الهدف، دون أن يغرف مقصده تحديدا، ولا مبرر الحديث بكل هذا القدر من الغلاظة عن النقيب ومن سماه علي شيش، فيما كان يواصل في ذات الوقت، التصفيق بحماس حتى بعد أن ارتمى على مقعده من فرط التعب، ودون أن يتوقف عن ممارسة ما هو نقيض ما ردده من مشين التوصيف ،إلا أن صعد للمنصة فتى، خمنه في العاشرة من العمر، راح يقرأ ما يحفظ من سورة النساء، وهو يتلفت بذعر بين لحظة وأخرى للممدود للحبل على يساره، ليضفي مشهده المرتبك، المزيد من الشذوذ على ما يجري في السيرك من القاعة.   

- والله عرفت راح يقره هاي الآية مال النسوان. ردد هامسا وحين وجده  راسما على ملامحه ما يوحي عدم فهمه المقصود، أضاف وبذات القدر من الجد موضحا : أقصد هاي... آية حلال... تنيج شكّد ما تكّدر . كان على وشك الاعتراض على ما ورد من مبتذل التوصيف حين عاد للقول جازما : الله ينطيها للفياغرا . 

في تلك اللحظة تحول سوء الظن لهاجس من حاد مشاعر القلق، خوفا من مخاطر الجلوس جوار من لا يجد حرجا من الحديث عن ما كان يعتقده في موضع المقدس من النص بكل هذا القدر من الابتذال. دون تردد قرر أن يبتعد عن محل وقوفه حتى من غير ذكر المناسب من العذر ولكن قبل أن يتحرك، خاطبه الرجل وبغضب: حضر روحك لبعرور خريط الحلكّ.  قال في توصيف ما سيجري قراءته من قبل من سماهم زعاطيط عمو صدام ولكن ما راحوا يتنافسون وبنشوة الدون من الناس على تقطيع جثة الشعر ، حتى راح يشارك بحماس وصخب في التصفيق وترديد الهوسات مكررا مثل غيره: أعد......أعد، تاركا إياه يتابع مشدوها هذا الغريب من التناقض، بين ما ردده من مصيب القول وسلفا في توصيف ما سيجري قراءته من الخريط ومن ثم مشاركته وبحماس في ترديد الهوسات والأهازيج، استحسانا وتعبيرا عن شديد الإعجاب.

كان على وشك السؤال وبغضب عن سر هذا التناقض، حين فاجأه الرجل متسائلا: ما أدري أشلون تكّدر تتحمل تسمع كل هذا الخريط وأنت ساكت جنك صنم....عزيزي...تعلم من تسمع شي ما يعجبك:  صفكّ ...صفر ...عفط ...حتى لا أتطكّ من القهر...قصدي... ما طول كّاعد بطولٌه وبنص الشوادي... علم روحك من أتشوفهم يصفكّون ...صفكّ مثلهم ...من غير ما تفكر لو تسأل، ليش وعلى شنو يصفكّون. قال بمنطق المعلم وهو يعود لمواصلة التصفيق وبذات القدر من الصخب والحماس

- أثول لا تحكم على الظاهر. ردد في سره نادما ، بعد أن أدرك، أن ما عده تناقضا معيبا في موقف الرجل، كان في واقع الأمر، متاح السبيل عنده، للسخرية مما يجري في القاعة، وربما انتقاما من المشاركة اضطرارا في هذا الضرب من المهازل .

فكر بالاعتذار عن سوء الظن، وكانت  (العفو) على طرف اللسان، حين تساءل الرجل وفجأة، عما إذا كان يعرف عقارا يضاهي مفعول الفياغرا، ولكن يفيد تنشيط الكّلب مو العير على تحمل تعب منافسة الشباب ليجاريهم في البزخ وهز الجتف قبل أن يقول موضحا. : ولد الطراكّ، ساعة اللطم ماكو أحدهم بحيلهم، وساعة هز الجتف والطيز ...شحده الواحد يوكّف كّدامهم بالساحة، وشوفت عينك، أخذونه فلاحه ملاجه وعلى فد جره، ردد ذلك  بتذمر المفضوح من الغيرة والحسد.

كان على وشك أن يذكر أسم ما يعتقده مناسب العقار، حين غير الرجل ومن جديد مجرى الحديث للقول فجأة : شوف شكّبر ضحكته.. جنه إعلان البقرة الضاحكة. قال وهو يشير ببصره لصورة تحتل حيزا واسعا من المساحة خلف منضدة المنصة ومباشرة تحت علم صدام.    

- هذا منو ....رئيس الحكومة. تساءل بفضول.

- معقولة ما تعرف ...هذا الرفيق أبو معجون، بس لابس على وجه بوز مخصوص للتصوير، وطالع مرعوب جنه جريه ووكّعت بالغلط بيد صياد من صوب الكاظم...قال قبل أن يضيف بمزعوم الامتنان: بس وينك... ربك حميد ...صورة وحدة ...مو مثل بناية النقابة ...بكل غرفة صورة، وبكل صورة، بوز شكل، جنه أيريد يصير مثل الماجده ملايين أيام زمان.

فكر بالسؤال عن من تكون ملايين ولكن عوضا عن ذلك قال هامسا وبتردد  وحذر: ما باقي بس.. تكّول... هم جان زيتوني ومن ربع الله يخللي الريس.

- شعبالك لعد ...بس ...وينك ...جان لا بالعير ولا بالنفير ...حيا الله زيتوني من العمارة... كّبل ما يحشكّ روحه حشكّ بالكار ...وره ما أنطاه أبن مشعول الصفحة ... سيارة إكرامية...يوم شافه    ينيشين مضبوط بوحده من حفلات الطماطة، .قال بتردد وبعد أن تيقن من عدم وجود من بتصنت على ما يردده من الكلام، قبل أن ينهمك في توضيح مهارة أبو معجون في إصابة وجوه من جاء دورهم للوقوف ضحايا في سهرات الطماطة، وكيف كان يفعل ذلك بحقد من تعوزه الموهبة وفي موقع العاجز عن مجاراة شطارة من يعملون في هذا الميدان من اللوكّية ويحصلون دون سواهم على المزيد والمزيد من المغانم والعطايا.

- ولمعلومك ( عاد للقول) كل اللي أتشوفهم كّاعدين بصفه يمنه ...يسره جانوا جنود بفصيل الطماطة ... وساعة ما صار نقيب...شغلهم عنده حوشيه....حتى يسد حلوكهم وما يفضحوه ويمسحون يومية وبالسره جتفه وطيزه بالمدح.... على ها ...قال سعادة  النقيب ...سافر سعادة النقيب... كلمه ونص وجم حرف والباقي صور بوزات لدرة بني لملوم...  وداير مدايراه ...شكّول ...شكّول ماجدات,  لو شنو ...حضرتك ما تقره المنشور بالجرايد ولا أتشوف المعروض من المخازي بدكاكين الانترنيت.

- ياريت على مسح الجتف والطيز – عاد للقول- النوب ...  صاروا يمدحون مولاهم بالمرجع ....على ها...سعادة نقيبهم...ترى هم جان معارضة والدليل إعدام أبن خالة عمته بزمن مشعول الصفحة ... وكل الزين والشريف من أهل العمارة يعرفون شكّد جان وسخ من ساسه لكّوكّة راسه.. والمصيبة مو بس وحده صار يحجي وبدون مستحه بالمعارضة ... ... هواية أكو غيره من ربع الزيتوني صاروا يتاجرون بدم الكّرايب اللي كتلهم مشعول الصفحة، وهم مو غيرهم جانوا يطاردوهم من بيت لبيت حتى يسلموهم للموت، والاكرامية سيارة لو بطاقة العضوية بحزب مناويج العفلقية.... ...وأتصدك ...حتى هذا حشه كّدرك اللي يسموه أبو حرب نعال .. صار معارضة ومفلكح ليل نهار بالفضائيات... يحجي قانون وعدالة... وهو الدوني  مو غيره جان أكثر واحد يكّص آذان ولد الخايبه المهزومين من الحرب....بس ويامن تحجي.... الحجي... مصدك تالي عمره ... يركب على ظهر نقيب أثول ...ما يعرف يكّول غير : أمرك سيدي. قال وهو يضحك من أعماقه ساخرا من المركوب، دون توضيح هوية الراكب، وكما لو كان يعتقد جازما... أن مفردة الحجي تكفي لتوضيح القصد والمقصود .

- أتصدك. قال وهو يشير ببصره للنقيب وعلى ملامحه ترتسم علامات توحي كما لو كان على أن يفضح سرا لا يعرفه سواه: الافندي ...بعد ما حصل على سيارة الإكرامية صار كل راس شهر يجي لبغداد  والعزيمة على حسابه ....نشرب ونأكل ونزوع وهو ممصدك روحه كّاعد بنص لمة ثقافة من ولد العاصمة ...وتعال أشبع ضحك ...من جان يبلش التصنيف بحجة المدح ...وشوفت عينك ساعتها ...يكّوم يدبج فرحان... ..وعلى ..ها ...أشلون تموت وأنت من أهل العمارة ....وكل ظنه الاثول ...عزرائيل يخاف ينطخ بتيلهم وبعدين أبن كّزار يملص ركّبته ويسوي لشته مصموطة. 

- بس ما معقولة صار نقيب وهو مو من أهل الكار ؟ تساءل عامدا بفضول وخبث من يريد سماع ما يجهل من مثير التفاصيل بقصد الكتابة عن ذلك لاحقا.

- أكّوله اختصاص يشمر طماطة ويكّللي من أهل الكار.... صدكّني بعده مثل ما جان.... هب بياض... ما يعرف يكتب صحيح ... سطر واحد ...والكل تعرف..... اللي يقراه كّدام الناس لو يطلع مكتوب باسمه بالجرايد كله من شغل علي شيش .

- بس أسمعت يدرس بالجامعة حنى يصير دكتور. عاد للقول وبذات القدر من خبيث الفضول.

- يا جامعة ...يا بطيخ ...لا تصدك كل اللي تسمعه .. بعدين عليمن يدرس ويتعب روحه وهو يكّدر بفلوس النقابة يشتري بدل الشهادة عشرين من سوكّ مريدي لو من جامعات المريدية على الانترنيت، مثله مثل غيره بالحكومة والبرلمان واللي صاروا على غفلة من أهل الدودة وهم بطركّ الابتدائية. قال قبل أن يلتفت للجالس على يمينه متسائلا : شكّد سعر الدودة اليوم؟  وما أن رد مسرعا (خمس أوراق وعليها ختم الوزير) عاد يلتفت نحوه قائلا : سمعت...حتى أتصدك.ّ 

- يا وزير يقصد؟ تساءل بفضول.

- أبو الطويل .....أكو غيره....أقصد ...خاف ما تعرف...هذا اللي يتباهى سووه أعلى سارية لعلم مشعول الصفحة....والله ما أدري... يكّولون طاح الصنم وعلم الله أكبر صدام... يرفرف بكل ما كان .... بس باقي يسووه لنسوانهم ...لباس وستيان. رد بغضب قبل أن يغير مسار الحديث مرة أخرى قائلا: يا ريت صفت على شهادات المريدي ... صار الافندي مثل غيره من فروخ مشعول الصفحة يوزع جوائز إبداع (نطقها ممدوة قدر ما استطاع) حتى يكبر راسه ويطم عار أيام الزيتوني.....وما تصدكّ .حتى هذا الجربوع .... علي شيش... سوه وحده من هاي اللي يكّولون عليها منظمات مجمتع مدني حتى ينطي لروحه شهادة أحسن صحفي بالعراق، ومحد صدك بهذا الفلم الهندي غير أبو معجون ولهذا السبب .. شغله عنده سكرتير لكلشي وكلاشي... وآنطه كارت أخضر يعبي النقابة بشعيط ومعيط... علمود يظل مو غيره....... نقيب... لتالي العمر....ويكّلك بعد جبدي ...ديمخراطية واقتراع. قال كل ذلك وعلى فد جره وهو يخلد للصمت، كما لو ما ظل عنده حيل، لقول المزيد.

- الشهاده لله – عاد للقول من جديد بعد لحظة صمت سريعة-  ...أبو باروكة قبغللي... ما قصر ... مو بس جاب شعيط ومعيط للنقابة ...لا ...فتح الباب الوراني لماجدات مشعول الصفحة ...وبحجة تمثيل النقابة ...صارت بنات حسنه ملص...خري مري للخارج...من بيروت للرباط ومن القاهرة للدوحة والحجة إيفاد ...وفلوس الكّواده بالنص. قال قبل أن يضيف مسرعا : بس وينك ...بعيني ما شايف .. هيجي الناس أتكّول. عاد يرتدي فجأة ومن جديد، مزعوم قناع الحياد، بعد أن ردد كل ما يريد من مرير السخرية والتصنيف.

- أشوفك رجعت لسالفة هيجي الناس تكّول وغيرك يحجي ويكّول أكثر بالفضائيات. قال دون حرج هذه المرة، لجره بعيدا عن المراوغة، وكما لو ما عاد يطيق ولا بمقدوره سماع ما يردده مرتديا درع هيجي الناس أتكّول .   

- بدون زعل حضرتك لو غشيم لو بطران.... قصدي... صدكّ ما تدري ... شنو الفايدة من الحجي بالفضائيات ...إذا كل كلامك يصير وغصب محسوب على صوب اللي تحجي القناة بفلوسهم ...وتعال تالي عمرك ..صير شادي والعمامة ...سعودي لو إيراني......لو تنزع لباسك بحضن ربع موزه... وكل من يكّول العكس  جذاب ...أبن حرام....و حتى لو تكّول كل اللي تريده ...شنو الفايده وبيش كيلو موقفك... وأنت ماد راسك من شباك مرحاض شرقي حتى لو جان الباب أخر موديل... غربي. رد بغضب لم يتوقعه وعلى نحو أثار دهشته تماما.  

- بعدين متكّوللي - عاد للقول وبذات القدر من الغضب - شنو حاجتهم لواحد مثلي... جان حي الله شاعر ...كسر القلم وضم روحه ...جندي حافر كّبره بصفه ثمن سنين... بعد ما صار ...الشعر ...زيتوني وقادسية ...وعندهم رهن الإشارة ....شكّول ...شكّول من ربع الله يخللي الريس...اللي بعدهم مثل ما جانوا ...ماكوا غيرهم يلعب طنب بالساحة  ...واحدهم جان يمشي زيتوني وطيزه مسدس وليل نهار يزرب ..شكّد أنت رائع سيدي ...قصايد وكتب واطروحات ....وصاروا اليوم يحجون ...بالمعارضة... وما كو بنصهم ولا واحد شريف أعتذر وكّال جنت غلطان ...طايح حظه... جربوع، أو على الأقل يكذب ويكّول جنت مجبور ...لا ... أتشوفهم وبدون مستحه صاروا يكتبون معلقات ...على ها....جنه نمدح صدام ....من باب الذم...عبالهم الناس غشمه وشما يقرون ...يصدكّون... ...عار حالهم صار مثل حال سافل أمن ومخابرات مشعول الصفحه...اللي على أساس اليوم يحاربون الإرهاب ......ياهو اللي تلزمه منهم ...يكّولك ...فكّ ياخه ..روح ألعب بعيد ...لو ما تعرف داعيك جان من ربع ولله جنود من عسل....وبعد كل هاي وغيرها..تعتقد أكو فايده من الحجي وتظن غلطان الناس... تسمع صوتك من تطلع بالفضائيات. ردد كل ذلك بحزن ويأس فاقد الأمل، وتماما كما لو كان لا يزال في موقع المجبور من الجندي، يربض مع مجهول القدر، جوار الجاهز من اللحد.

في تلك اللحظة، غادره سوء الظن، وتبدد ما كان يساوره من الشك، وما عاد في موقع المحتار.  

بات الرجل عنده وفجأة، نقيض جميع من التقاهم من وضيع الناس، أو هكذا تمنى، طمعا بالخلاص مما تراكم في أعماقه من مرير مشاعر الخيبة والخذلان ،منذ أن عاد وأرتكب ما لا يغتفر من الحماقة.

وأن غادره الشك وسوء الظن، وما عاد يفكر بالانتقال لمقعد أخر، بعيدا عن محل جلوس الرجل، ولكن ظل عاجزا عن فهم دوافع ما يردده من مشين التوصيف، بحق من كان يسميه ساخرا الرفيق أبو معجون، ودون أن يعرف بالتحديد، ما إذا كان المقصود بالذات شخص النقيب، أو صيره عامدا، شماعة تحت الطلب، لتبديد ما يعتمل في أعماقه من مفضوح الغيض والنقمة.

أكثر ما كان يثير غضيه إصراره على تكرار ما ينم عن مرير السخرية والتصنيف، بمراوغة من يكسر ويجبر، كما لو كان مدمنا على هذا النمط من غريب التعبير عن مواقفه، أو يجد متعة لا تضاهى في ترك السامع، يفر براسه محتار، عاجزا عن التمييز ما بين الخيط الأبيض والأسود، في سياق ما يردده من غليظ القول مع نقيض السلوك، في ذات اللحظة وبذات القدر من الحماس.

 كان على وشك السؤال عما يدعوه للحديث بازدراء عن النقيب ومن ثم يشارك في مهرجان يقام تحت رعايته ، حين أسرع يتطوع بالرد على ما كان لا يزال يجول في خاطره من السؤال قائلا: لا يروح فكرك بعيد، وتعتقد غلطان، هذا بس حال أبو معجون وحوشيته، ترى وين ما أدير وجهك, صدكّني ما راح أتشوف كّدامك، غير فروخ الله يخللي الريس والعمامة زيتوني. قال بمنتهى الحذر ودون أن يغير اتجاه بصره عن من يحتلون الصف الأول من المقاعد، بزهو المنتفخ من الضفادع.

- أشوفك بعدك تحجي همس وتلف وأدور، وجنك ما تريد الواحد ياخذ منك لا حق ولا باطل. قال بجد يرتدي لبوس المزح.

- تكّدر أتكّول عاده وأدري صعب عليك تفهم ...قصدي...أنت ما عشت طول عمرك جوه الحكّه ...ووين ما تروح عيون الدون وراك......تعبي غصب استمارة وره استمارة ..والغلط سجن لو إعدام...إلا أن صار واحدنا يمشي مرعوب بصف الحايط ...جبان ...وشحده يفتح حلكه بكلمة زايدة لو ناقصة.. ّ كّدام الكّرايب والمعارف  ...وحتى بالبيت ميكّدر يحجي لو يطلع قهره بالبجي، خاف ينجفت تقرير من أبنه النغل... الفتوة... لو البربوك مرته.. الماجدة ...ويروح بوله بالشط مثل هواية من ولد الخايبه. رد بوجع وهو يقوده من جديد لموقع الدهشة من براعته في التوصيف، وبإيجاز من يملك قياد ما يردده من العبارة، ولكن دون أن يغادره مبهم الإحساس من أن الجالس جواره، رجل غريب الأطوار، أو هكذا يريد عامدا أن يبدو في نظره، لما يجهل من السبب والدافع. 

تدريجيا ما عاد يشغله الجاري من المهزلة في مهرجان التهريج، ولا يهمه حصار نظرات الازدراء، لشذوذ عدم مشاركته في نوبات المسعور من البزخ، شأن جميع من يتواجدن في المرحاض من القاعة. بات شغله الشاغل، معرفة المزيد عن مواقف الرجل بجره للحديث كلما هده التعب، وعاد للجلوس بعد أن يظل يدبج ويهز جتف مثل الزعاطيط،كما لو كان المسكين يتصور بعده بحيله، أو يريد القول ( شوفوني) وهو يسلط مالح البصر باتجاه الجالسات بالغلط في مقاعد أهل الشعر.

- أكيد بسرك أتكّول شنو القضية ... أغمج كلش بالحجي .... ضايج وزعلان... وبعدين أبزخ وأهز جتف فرحان. عاد من جديد يذهله بالرد على ما كان يروم طرحه من السؤال، وكما لو كان يطالع على ملامحه ما يدور في خاطره من الأفكار.

- شوف عزيزي مثل ما كّلتلك بدل المره ...عشره... الواحد لازم وغصب أيصير مثل العالم والناس ...يسووي اللي يسوه، من غير تفكير وأحساس، حتى لا يصير حشه كّدرك جلب أجرب...معزول وما عنده شغل وعمل غير ياكل بروحه إلا أن يطكّ من القهر أو يروح برجلله للسماعية...ولمعلومك... غلطان كلش إذا تعتقد واحدنا يبزخ من الفرح ...شوفنا....أشلون ... نفر الإصبع ملتاع وحيل نلطم الراس والطيز ...وبس ربك يدري... شكّد قهر مضموم بالكّلوب.

- شنو أتريدني أبزخ وأهز جتف تالي عمري. تساءل بليدا من غير تفكير قبل أن يكتشف وسريعا أن ذلك ما كان وقطعا، مغزى ما ردده الرجل من القول. أدرك ذلك بعد أن راح يتطلع نحوه راسما على ملامحه ومن جديد ساخر التعبير : آحنه وين وعرب طنبورة ..وين.  

عوضا عن الاعتذار عما ردده من بليد التعقيب، فكر السؤال عما يدعوه أن يكون مثل سواه من الناس، وهو يختلف عنهم بما يردده من نقيض الموقف. وجد أن ذلك أكثر جدوى من الاعتذار بعد أن بدأ يدرك وبالتدريج، أن الجالس جواره، لا يهذر بما لا يعرف، ولا مجرد برميل مفتوح للثرثرة، كما كان يعتقد في أول الأمر.

- عزيزي -  عاد الرجل للقول فجأة - أنت ما شفت الموت بعيونك يوم بيوم... وبحروب ما تريدها، ولا أحد غصبك أتصير عفلقي وتلبس زيتوني... لو دوني جيش شعبي...وبعد ما طاح مشعول الصفحة ...محد جبرك تنزع لباسك وتلفه على راسك عمامة... حر طلعت بروحك من جهنم ساعة كّبل... وكل اللي سويته... بطوعك ومرفوع الرأس وأسمك مناضل...بس مو ترجع حبيبي وتعتقد غلطان الناس .....بعد  تلاثين سنة ضيم وظلم وحروب وفوكّها ارهاب،....ظلت مثل ما جانت.... مختصر مفيد حجايه... لا تنتظر وتترجى من الناس...يصيرون على مرام اللي براسك من الأفلام ....ويخليك الله ويحفظك لا تعتب على ولد الخايبة... وتسوويها عليهم محكمة... وأنت القاضي. ردد كل ذلك باستياء وغضب وكما لو كان على وشك أن يصفعه بما هو أكثر من واضح القول صارما، ولكن عوضا عن ذلك أختار أن يتجاهل وجوده مباشرا الثرثرة مع الجالس على يمينه، إمعانا في التعبير عن غيضه وتذمره،

ما ردده الرجل وبصفاء ذهن مدهش، في توصيف خراب الناس وبؤس واقع الحال، جعله تمنى أن يغيب عن نظره من فرط الخجل ، بعد أن ردد كل ذلك، كما لو أن كل شيء معروف ومكشوف وتحصيل حاصل، لا يستدعي غير المألوف من الحديث، في توصيف واقع حال واضح المعالم بمنظوره، وأن كرر القول حالي مثل حال غيري، أو ارتدى درع هيجي الناس أتكّول،   

في وهج تلك اللحظة راح يتبدد مرير القاتم من الصورة والتصور، ليزدهر في أعماقه الأمل والجازم من الاعتقاد من أن أبو تحسين، ما كان يمثل المنفرد من غريب الحالة، وإنما كان نموذجا للكثير ممن ظلوا وبعد مديد عقود الحرب والعسف والخراب في موقع الأصيل من الناس، وكما كان الحال قبل أن يجتاح طاعون العفلقية أرض العراق.

- شنو رأيك أسووي مقابلة وياك والنشر مضمون وبالحرف الواحد. قال وهو لا ينتظر غير الرد بالإيجاب.

- تقصد مقابلة تنشرها بالصحف والانترنيت؟....ليش وعلى شنو؟. تساءل الرجل بفضول .

- حتى أتكّول كل هذا اللي كّلته وبراحتك... والناس تعرف....... ترى هاوي أكو مثل أبو تحسين. رد مسرعا وكان على وشك توضيح المزيد حين قاطعه متسائلا بدهشة :

- منو ...آني مثل أبو تحسين ....تحجي صدكّ ومن كل عقلك،. لو حضرتك جاي مخصوص من بره حتى تهجم بيتي وتيتم عيالي ساعة كّبل. رد بما ينم عن الاستياء وكما لو كان يريد أن يقوده ومن جديد لموقع المحتار.

كان على وشك التعقيب بغضب الدهشة من حين عاد الرجل للقول وبذات القدر من الاستنكار:  لا تظل تعتقد غلطان مثل غيرك.... كل اللي بقوا بالجحيم... معدنهم ظل أصيل مثل أبو تحسين ..وجنكم ما تدرون ...مثله بين الناس... كلش معدود....وحتى هذوله... جتفهم الخوف ...عقل وراس ولسان ...بعد ما شافوا شصار بحال المسكين يوم كّال اللي كّاله... وهو يضرب جهرة مشعول الصفحة بالنعال...والله لو ما مهزوم للجبل ...جان ولد الحرام زيتوني وعمامه ...سووه وذره ...وذره وذبوه بالشط. قال بغضب وهو يجهز تماما على ما كان يعتقده سهل المنال من المهمة.

- بعدين حضرتك وغيرك من أهل بره – عاد يضيف وبذات القدر من الغضب – تكتبون وتكّولون كل اللي أتريدوه براحتكم ومن غير خوف ...مو مثل حالنا ....يكّلك صارت حرية وديمقراطية وتكّدر أتكّول وتكتب كل اللي أتريده ...بس دير بالك أتروح زايد لو أطخ بالعظم ... مثل واحد عصي وبخيل من بطن أمه ...يعزمك على الغده وبس توصل لعنده يبلش يغنيلك : مو كّاعد الله وياك. قال وهو يعود لتكرار حركة يده للقول تلميحا ومن جديد : آحنه وين وعرب طنبورة وين.

لم يعقب. أنهمك يبحث عن مناسب القول، لتجاوز حيرة ما سمع من قاصم الرد، وعلى نحو ما كان ينتظره مطلقا، موقنا أن قاطع النفي ورفض المقارنة مع أبو تحسين، لا يعدو أن يكون سوى ضرب من جميل التواضع، متجاهلا غير ذلك من التفسير، وكان على وشك أن يقول : التواضع حلو ...بس مو على طول. حين عاد الرجل للقول وكما لو كان يريد تبديد الوليد من الأمل : عزيزي أنسى أبو تحسين... ولا تعب روحك وتفكر هواية... صدكّني كثر التفكير يضر الصحة ويقصر العمر...أتريد بلاش نصيحة ...أكّلب عكّرب... وأرجع لديرتك .. ساعة كّبل....أسمع دعاء كميل وغركّ روحك بالدمع وبعدين عبي الطاسه ويسكي.... ومذموم وحرام تسووي العكس. قال بمنتهى الجد مرتديا قناع وقار أهل الكوميديا السوداء.

- صدكّني – عاد يقول- لا تفكر من الأساس وتعقد الأمور.. لو تخبص روحك بالتحليل... الوضع ما صار على مرام الناس ....بعده مثل ما جان... ما تغير..... نفس الطاس والحمام ... فروخ مشعول الصفحة نزعوا الزيتوني ولبسوا العمامة: بيضة ... سوده... أبد ماكو فرق وحسب التساهيل... وحتى الغشيم بنص أهل الضيم صار يعرف: الوضع شادي وعلى اجتافه راكب ذيب، وإذا جان العكس بالظاهر ...أبد ماكو فرق ...تدري ليش ...لان أبو الزيتوني تلاثين سنة خبره ...يعرف شي يريد، وأشلون ينال اللي يريده ...والشادي....يظل شادي وأشلون ما تريده يصير على مرامك... طول عمره قشمر ....... ياكل موز ويزحلك بالكّشر. قال كل ذلك بإيجاز ووضوح أذهله تماما وقاده مرغما للشعور  بمدى ضآلته في مواجهة ما يملك الجالس جواره، من صفاء الذهن والمتميز من القدرة في توصيف واقع حال الناس وبإيجاز المقتدر، كما لو كان عالم اجتماع وهو الذي كان خابص روحه في مضمار التحليل والتنظير.

في وهج مشاعر فرح تلك اللحظة، ما عاد وجوده في هذه المكان، غلطة لا تغتفر، وإنما سعيد الحظ، قاده لمجاورة من ساعده على أن يشوف حال الناس والواقع، كما هو بالفعل ، وليس وفق محنط الأوهام والتمنيات.صار الرجل عنده وفي هذا الغلط من المكان، نقيض من تبقى على قيد الحياة من مزعوم الأهل، وجميع من التقاهم خلال مرير الأسبوع، وأقرب لروحه حتى من كثير رفاق الدرب ومشترك الفكر ممن التهمهم ومصص عظامهم.. زنجار الغربة، وفي موقع من بمقدوره إنقاذه من كل ما تراكم في أعماقه من القرف وكالح المشاعر، بعد أن امتطاه اليأس تماما، وكان قبل ساعة من الزمن ، على وشك الانتحار، للخلاص من عذابات الخيبة ووجع سياط الندم.

موقنا أدرك أن مفردة ( عفوا) أو غيرها من بليد مألوف عبارات الاعتذار، ما عادت تكفي للتعبير عن ندمه من التعامل مع الرجل، محكوما بالشك والبليد من سوء الظن، ليكتشف وأخيرا أن الجالس جواره وقطعا، مو حي الله واحد وإنما صاحب عقل مرتب بالراس، ويعرف تماما عما يتحدث بالتحديد، ومغزى ما يردده من القول، وببساطة العليم من الناس.

ترك مقعده وهو يدير البصر باحثا عن أبو تأنيب بقصد القول زاجرا : كّتلك مو كل أصابعك سوه.  وكان على وشك أن ينحني لتقبيل جبين الرجل، تعبير عما يعتمل في نفسه في فرح تلك اللحظة من وفير المحبة، وعرفان بجميل استعادة مفقود الأمل ، ولكن في اللحظة الأخيرة داهمه أبو تأنيب بالمقيت من حضوره، لمنع ما يروم من الفعل, مكررا على مسامعه المبهم من التحذير : على كيفك ...لا تستعجل.

مترددا عاد للجلوس وهو يلوك في ذهنه ( لا تستعجل) التي رددها أبو تأنيب، دون أن يعرف مبرر تحذيره، وهو ما كان يروم من الفعل، غير تقبيل جبين الرجل، امتنانا لجميل عونه في جره من حضيض اليأس، لضفاف الأمل من جديد، بعد أن قاده بالمدهش من إيجاز التوصيف،أن يبوع بعين البصيرة ، حقيقة خراب واقع حال، ماضي وحاضر، ثلاثة عقود من بشع الزمن.   

كان يكره أن يداهمه أبو تأنيب بالمباغت من حضوره المرة بعد الأخرى, وفي بعض الأحيان كان يتمنى لو أن الله يقصف عمره، للخلاص من سياط ما يردده من متكرر التقريع، ولكن دائما سرعان ما كان يتراجع عن هذا الحرام من الأمنية مرددا : الله لا يكّول، منذ أن بات في موقع المحتاج لوجوده ، ساعة تتشضى مشاعره ويكون في موقع المحتار، عاجزا عن التفكير وتجنب حماقة السلوك، بعد أن ظل وكما كان على الدوام، طفلا، لا يجيد مع رواية الشعر، غير التحليق بعيدا عن الواقع والولع بالمشاكة.

- بس هاي المره طوخها كلش. ردد في سره وهو ينهض من جديد للتعبير عن الامتنان بالملموس من الفعل على عناد أبو تأنيب، وكان على وشك أن يفعل ذلك، حين فاجأه الرجل بالقول : والله ضاع صول أجعابي من وره اللوكّية .. بزمان مشعول الصفحه... صعدوه بالمدح لسابع سما وما كو غيرهم ...سيارات وأكراميات ...وبزمان ...عمامة زيتوني ...صاروا يلعبون لعب بالفلوس...عزايم وكشخه وفضائيات ..والفلم شعراء آل البيت ... وداعيك ظل مثل ما جان ...يركض والعشه ...خُباز. ردد كل ذلك وهو يعود من جديد لتقريع من ارتدوا العمامة بعد الزيتوني وبذات القدر من مرير السخرية والنقمة. هكذا تصور الأمر جازما.   

كان على وشك أن يدعوه مشفقا أن لا يشغل فكره بهولاء الشوادي، حين عاد الرجل للقول بغضب من يمارس تقريع الذات : صوجي وما عرفت ألعبها زين بيوم الانتخابات...كل عقلي الدكتور مضمون راح يصير النقيب ... صحيح ما كو فرق... الاثنين جانوا زيتوني ....بس دكتور صحافة زيتوني ...أهون من أبو طماطة زيتوني...بس صار اللي صار وداعيك طلع بصخام الوجه وضيع المشيتين. 

لم يعقب . تصور أن ما ردده الرجل لا يعدو أن يكون غير طرفة، تفيد الإضافة في توصيف مهازل صناديق الاقتراع، محكوما بمطلق القناعة، أن ما ردده مرتديا لبوس الجد، يندرج وحتما في إطار المتميز من مرير سخريته في التصنيف عن وحول كل شيء.

- الدكتور سووه عميد - عاد للقول وبذات القدر من الغضب-  وأبو الطماطة صار نقيب ...وما غفر ذنبي  ...وشوفت عينك ...وين كّاعد ...حي الله واحد من ربع بيش كيلو.... ومغصوب أشارك بجالغيات النقابة...وبس أكّول لا ...يكّطعون فلوس التقاعد وأنحرم من وصلة الكّاع ...هذا إذا سلمت على ريشي وما صرت مشبوه وتعال خلص روحك من أربع إرهاب. قال وهو يمارس ساخطا تأنيب الذات،

في تلك اللحظة بدأ الشك يساوره. ما عاد يفهم دوافع ما بات يردده الرجل من ملتبس القول، عاجزا عن تحديد، ما إذا كان الجالس جواره لا يزال ينطلق من مرير السخرية والتصنيف، أو يعبر وبمنتهى الجد عما يعتمل في أعماقه من متراكم نقمة المحروم من مغانم ومكاسب من كان يسميهم ولد الطراك اللوكّية.

- بس وينك – قال وبفرح غامر -....اليوم راح أعدل ميزان يافوخ النقيب ...راح  أجفته بقصيدة ...مسح جتف وطيز باب أول... وبس يسمعها... أكيد مكان داعيك، من اليوم وصاعد، يصير محفوظ ليكّدام. قال كاشفا دون حرج عما يشغل ذهنه في تلك اللحظة، ليعزز ما بات يراوده من الشك، أو كما لو كان يريد القول وللمرة الأخيرة: أثول....صوجك ظنيت حالي مو مثل حال غيري.  

فكر التعقيب وبغضب من تعرض للغدر ، ولكن مسرعا تراجع عزمه، مدركا أن لا جدوى من غليظ القول أو مرير العبارة، لشتم من طلع بدوره لا يختلف عن من التقاهم طوال مرير الأسبوع، وأن ردد في الظاهر ما هو نقيض القول .

- أسمع – قال بذات القدر من الفرح -... أسمع المطلع وأنت تفهم:

كذب كّالوا تطلع من العوجة

شحدها تصعد للسما

من دون أمرك سيدي

ردد منتشيا قبل أن يتساءل باهتمام : شتعتقد مو أحسن أكّول ...سيدي النقيب، خاف  يعتقد أقصده غيره بالمدح.

- لا ....سيدي وحدها أحسن، حتى لا تخبرط القافية والوزن. رد بمرارة المفجوع وهو يتصنع مزعوم الجد ساخرا.

- أكّوله كّاعدين بطوًلة و الناس شوادي... على كلشي تهز ركّبه وجتف وطيز  ...وبعده الأخ يحجيلي بالوزن والقافية...صدك أنت واحد بطران. عقب ساخرا بالقول والملامح.

لم يعقب. أنهمك في التفكير، بحثا عما يبرر هذا الغريب من مفاجئ التحول لما هو المختلف تماما من الموقف وفي لمح البصر ، وأن ظل حتى تلك اللحظة، يرفض ولا يكاد أن يصدق أن كل ما ردده الرجل من مرير السخرية عن وحول كل شيء، ما كان ينطلق من القناعة، ولا يتعدى حدود الطمع بالجلوس في الصف الأول من المقاعد. 

 - بعدك تضرب جوه الحزام، والحجي تصنيف، لو تحلم صدكّ تكّعد بصف النقيب. تساءل بوضوح ومن غير حرج، لقطع الشك باليقين.

- شنو ما يلوكّ لداعيك يكّعد ليكّدام. عوضا عن الرد تساءل بشيء من الاستنكار وهو ينهض للمشاركة في البزخ وبذات القدر من مسعور الحماس، ودون أن يتوقف عن محاصرته بنظرة غريبة، ما كان يدري، أن كانت تنم عن السخرية أو الشفقة، فيما كان يتمنى ومن فرط الغيض لو بمقدوره أن يعضه من زردومه أو ينهال عليه بالضرب أو يبصق في وجهه الذي بات في تلك اللحظة مثيرا للقرف والاشمئزاز. 

- صوجي.  ردد في سره مؤنبا الذات بعد أن أدرك أخيرا وبعد فوات الأوان أن الرجل ما كان يخدعه طوال الوقت، وحالي مثل حال غيري، التي ظل يكررها المرة بعد الأخرى، كانت من قبيل مطلق القناعة، وليس من كاذب الزعم، أو من باب جميل التواضع، كما ظل يعتقد ساذجا ، بقصد الحفاظ على ما عاد يزدهر في أعماقه بعد اليأس من وهم الأمل.

في وجع تلك اللحظة، عاد كل شيء، يدور من جديد في دوامة الغثيان والقرف، كما كان الحال طوال مرير الأسبوع، وما عاد بمقدوره مرة أخرى، غير الاستسلام وبخنوع العاجز، لمواجع الندم، تاركا المهان من الروح، نهبا  لسياط جلد الذات، فيما عادت مشاعره تتشضى مرة أخرى، ما بين النزوع للصراخ قرفا، والجنوح للزوراع احتجاجا، ولا يملك من الخيار، غير المراوحة مرغما في دوامة اليأس والخيبة والخذلان، بعد أن مات في أعماقه، وبعد الوجيز من وهج فرح مما راوده متفائلا من بصيص الأمل وقبل أن يزدهر.

ما عاد يهتم بثرثرة الجالس جواره، ولا يشاطره عبث الحديث وأن ظل يرسم على ملامحه ما يشير كما لو كان لا يزال يصغي لما يقول، محاولا دون جدوى، تركيز انتباهه عما يشغله بعيدا عن تفاهة استمرار وجوده في الإسطبل من المهرجان، بعد أن بات كل شيء وأكثر ما مضى، مدعاة للقرف والنفور، ودعوة بالمجان للجنون، بما في ذلك الزاهي من متنافر ألوان ملابس الصغار التي كانت تبدد بعضا من عتمة حشود السواد، باتت تضفي المزيد من الشذوذ على مشهد ما يجري تحت المغصوب من السمع ونظر المغتصب من البصر.

ما عاد الندم يجدي، ولا يفيد نفعا جلد الذات، للخلاص  من وجع ما أرتكب من الحماقة. عاد للجسر من جديد، ساعة فكر أن يطمر عاره في حضن ما تبقى من جثة النهر. صار الموت، وحيد السبيل، للنجاة من ذل هوان مكسور العين، بعد أن كان وعلى الدوام، شايف حاله مغرور، وشايل خشمه لسابع سما، كما لو كان دون سواه، يملك ناصع التاريخ مناضلا ،أو لا يوجد غيره من ينطق بالشعر.  

من غير تردد قرر سلوك هذا الدرب، ولكن ليس قبل أن يمارس الاستثنائي من  مدوي فعل الاحتجاج حتى لا يجري تصوير انتحاره كما لو كان بدافع اليأس من الحياة أو ضربا من عبث الشعراء.

أول ما خطر على ذهنه تكرار  فعل النواب، يوم صعد فوكّ الميز وبال على الحكام العرب. بفرح المشاكس من الطفل، استحوذت الفكرة على ذهنه. وجد أن من السهل تماما تنفيذها، ساعة يأتي دوره لقراءة ما كتب من القصيدة. الأمر لا يحتاج ما هو أكثر من مجرد الصعود على الميز ليصرخ وبعالي الصوت : أريد أبول عليكم، ومن ثم يطلع أبو شليلة ويرش المقسوم على النقيب ومن يجلسون جواره من الضفادع.

- فكرة عظيمة. ردد في سره منتشيا، ومحلقا في فضاء ما يتمناه من صاعق الذهول والدهشة وتحت سمع وبصر العشرات من عدسات الفضائيات والمئات من كاميرات المحمول من الهواتف، موقنا أن بول احتجاجه، سيغدو حديث الساعة ويتصدر نشرات الأخبار محليا وعربيا وربما عالميا وعلى نطاق أوسع بكثير مما حدث مع واقعة أبو القندرة.

- ما راح يصير أكثر مما صار فوكّ الجسر.هكذا تصور الأمر، محاولا تفادي التفكير، بعاقبة ما يمكن أن يجري بعد أن يبول ويمارس ما يريد من الاحتجاج، ولكن سرعان ما راحت تحاصره كالح الاحتمالات، لتبدد وبالتدريج فرح مشاعر ممارسة الاحتجاج عبر هذا الاستثنائي من السبيل.    

في أول الأمر، خاف أن يبطحوه على بطنه ليمتطي ظهره بالتناوب جميع من في القاعة للمشاركة في وليمة اغتصاب المنيوك القادم من بره، أو ما هو أسوء من ذلك بكثير. ماذا لو تنافسوا على كّص أبو شليلة ليغدو مخصيا لما تبقى من العمر أن لم يقتلوه والتهمة ...إرهابي. 

مذعورا تراجع عن هذا المجنون من الفكرة، ولم يتجاوز وبعد طول عناء، رعب مشهد النافر من الدم، إلا بعد أن قرر عدم انتظار حلول موعد صعوده للمنصة، طالما أن بمقدوره ممارسة فعل الاحتجاج من محل تواجده في القاعة.

وجد أن الأمر لا يحتاج، ما هو أكثر من مجرد الصراخ وبكل ما يملك من القوة ( أنجبوا ولد الطراكّ) لفرض مطبق الصمت في القاعة ولفت انتباه مراسلي الصحف والفضائيات، قبل أن يردد  كل ما يريد من غليظ القول، لفضح خراب النفوس ومزري واقع الحال، وفي الختام يردد نشيد : تف عليكم وأولكم النقيب،

- فكرة رائعة. ردد جازما وهو يقرر ومن غير تردد تنفيذ الفكرة، موقنا من عدم قدرة ربع يزيد إعدامه شنقا بالمدندل من الحبل، ومن المستحيل إقدامهم على إخماد صراخه بالرصاص أمام عدسات التصوير والمئات من كاميرات محمول الهواتف.  

تمهيدا لتفعيل قراره، راح ومن غير قصد، يزفر المرة بعد الأخرى، كما لو كان يريد التحرر من مشاعر الخوف والارتباك ، وكان على وشك النهوض لممارسة فعل الاحتجاج صارخا،حين فاجأه الجالس جواره قائلا باستياء:

- والله راح تحركّنا ...حركّ ...اللي يشوفك سارح وجر حسرات يكّول جنك نوي تنتحر لو أطكّ من القهر.

- أنتحر ....ليش وعلى شنو....أسرع يرد بارتباك المفضوح بالجرم المشهود، راسما على ملامحه ضحكة بلهاء لكتمان سر ما يعتمل في ذهنه من مجنون الفكرة، متراجعا عن عزمه ممارسة الاحتجاج من محل جلوسه، خشية من إقدام الرجل على كتم صرخاته وقبل أن تصل لمسامع جميع من في القاعة، ليضمن ومجانا الفوز بثقة النقيب، ويحقق ما يتمناه من سخيف الحلم.

مرغما عاد ينتظر فرصة الصعود للمنصة، لممارسة ما يريد من استثنائي الفعل، عاقدا العزم على أن يبهذلهم في أول الأمر وقدر ما يستطيع، بالحديث ساخرا  عن فضيحة ما أكتشف من شنيع الغلط في صياغة عبارة الترحيب، ولكن وقبل أن يباشر البحث عن المناسب من ساخر  العبارة، تراجع مسرعا عن فكرة التأشير على الغلط لغويا في طولة وأمام حشد من الحمير، مما سيجعله وحتما مضحكة ومادة للتصنيف والسخرية، ودون أن يفيده ذلك في إثارة غيضهم وغضبهم ومن غير أن يحصد العاصف من ردود فعل وسائل الإعلام وعلى النحو الذي يريده.

- كّوم ...آجه دورك. قال الرجل وهو يربت على كتفه من غير رفق، وقبل أن يجد مناسب البديل، لممارسة ما يريد من الاحتجاج.

في الطريق متعثرا للمنصة، وبعد أن ظل يحدق بالممدود من الحبل، استحوذت على ذهنه وفجأة فكرة مباشرة تمثيل دور من يروم الانتحار لممارسة فعل الاحتجاج دون حاجة للصراخ. بسرعة خاطفة، قرر تنفيذ الفكرة، ليغرق وعلى عجل في نشوة تفاصيل ما سوف يحدث من مدوي ردود الفعل إعلاميا. وجد أن تمثيل هذا الدور وأمام عدسات التصوير، مناسب السبيل، احتجاجا على كل ما وجده نقيض الحلم والتمني، وانتقاما من كل الإهانات ونذلات فض التجاهل.

لحظة الوقوف خلف الميز، تغير مجرى تفكيره مرة أخرى. قرر وقبل المباشرة في تمثيل دور من ينوي الانتقال للعالم الأخر، شتم النقيب والحضور ومزري واقع الحال بما يجيد من غليظ القول وما ينطوي على العيب والحرام ليضمن أكيد غيضهم والغاضب من ردود فعلهم، وتحت أنظار مراسلي الصحف والقنوات الفضائية.

لبضع لحظات ظل يتطلع بصمت ودون تركيز في أرجاء القاعة. فكر أن يصرخ : أنجبوا ولد الطراكّ لؤد ما يسود من ضجيج أجهزة المحمول وعياط الصغار، طمعا بتسهيل مهمة البحث عن المناسب من الشتيمة. في النهاية راح يحدق بالنقيب دون سواه، كما لو كان يريد أن يستلهم المطلوب من الشتيمة عبر بليد ملامح من لا يجيد تمثيل دور الزعيم. التفت أكثر من مرة للممدود من الحبل قبل أن ينطق أخيرا: 

اليوم ...بات بمقدوري الموت من فرط الفرح.

تحقق أخيرا ما كان على الدوام...

عصي الحلم .

صار بمستطاعي متأملا...

بلوغ نعيم الذروة مرات ومرات .

ردد ذلك برخيم الصوت والمتميز من أسلوب الإلقاء وباسترخاء الخارج من المرحاض ، وخشية من عدم استيعاب الحضور لما ردده من داعر القول أسرع يترجم محتواه للدارج من اللغة قائلا. 

حرام تمد أيدك لجوه

عوف أبو شيلله بحاله

أصفن...أصفن ...

صفنة الفايت بالغلط لحمام نسوان

وأنت تنال المراد

وتنام ليلك مرتاح 

ردد بنشوة من هو على وشك بلوغ الذروة، تاركا جذعه يتحرك ذهابا وإيابا، كما لو كان يريد توضيح ما لا يحتاج للتوضيح، إمعانا في الابتذال وبقصد ازدراء الحضور، ولكن خلاف ما كان يتوقع، من مجنون صرخات الاستياء والغضب، أنطلق الجميع يصفقون بضجيج المفضوح من الشبق، قبل أن يتطوع أحدهم إيجاز ما ردده من القول في أهزوجة راح يكررها بحماس المدمن على العادة السرية:... لا تمرخ بعد اليوم ...بالصفنه تنال المراد.. .ها....ها.... شكّد ما تكّدر... جب ...جب .....وظل يتكرر صدى الأخير من المفردة في فضاء القاعة مخلوطا بمجون صرخات جميع الحضور من الرجال ممن راحوا يحركون أجسادهم كما لو كان يمارسون فعل النكاح، فيما كانت مسؤولة الايجات وغيرها من النساء، يتصنعن من غير نجاح، تمثيل دور الحياء والخجل.

تعطل ذهنه عن التفكير تماما. ظل يتابع بذهول البليد ما يجري من شاذ رد الفعل، وعكس ما كان ينتظر من صرخات الاحتجاج والغضب. في تلك اللحظة، ما عاد بمقدوره البحث عن مناسب البديل من غليظ القول، لممارسة ما كان يريد من مدوي فعل الاحتجاج.

كان لا يزال غارقا في الحيرة والارتباك، حين تغير وفجأة غريب المشهد، مباشرة بعد أن همس أبو بروكة في أذن النقيب ما دعاه للصراخ مسعورا: أنجبوا ولد الطراكّ. ليتوقف وفجأة ضجيج صخب النكاح، ويسود المطبق من مريب الصمت.

- طروه ...أربع طرات... صرخ معوج اللسان صدام قبل أن يتراجع مرتبكا: أقصد نزلوه لهذا الكافر ...ردد وهو يرتجف من فرط الغضب مخاطبا ربع يزيد.

بسرعة خاطفة امتطى سطح الميز . لف عنقه بالممدود من الحبل، ومن غير انتظار، باشر تمثيل دور العازم على الانتحار، مكررا صرخات الوعيد: والله بس تتقدمون... أشنق روحي وأسويها عليكم فضيحة، تخزيكم ليوم القيامة. ظل يردد ذلك وهو يكاد أن يبكي من فرط الفرح، منتشيا بتسجيل حشود عدسات المحمول وكاميرات الفضائيات، للجاري من فريد الاحتجاج، بالصوت والصورة.

حين وجدهم لا يأبهون بما ردده من التهديد، راح يشدد قبضة الحبل حول البائس من العنق، تاركا اليمين من الساق،تمثيل دور من يريد دفع المنضدة بعيدا عن موقع القدم، لتأكيد عزمه على تنفيذ وعيده، ومن فرط بلادة المحشوة عقولهم بدعاء ( غمض عينك وأطفر التيغه كّبل ما أتشوفك أمي) صدقوا وقائع الفلم الهندي. توقفوا عن الحركة، بغباء وحيرة العاجز عن نقل موضع القدم، من غير صارم الأمر، فيما كانت البساطيل فوق أكتافهم، تستدير نحو مولاهم ، بانتظار المطلوب من الفرمان.

في فرح لحظة النجاح في ممارسة ما أراد من متميز الاحتجاج، فاجأه خبيث الربو، مشدد قبضته حول خناق الوهن من أنفاسه، بحقد من ظل ينتظر طويلا هذا السانح من الفرصة، مدركا عجزه عن استخدام ما اعتاد من البخاخ، للحصول وعلى عناده على ما يريد من نقي دفقات الهواء.

حاول جاهدا الخلاص من قبضة الربو والحبل، ولكن دون جدوى. لحظة أن شاهد عزرائيل يتقدم باتجاهه، راسما على البشع من ملامحه، حقد الشامت من النذل، راح يصرخ متوسلا من فزع طلعان الروح : يخليكم الله نزلوني .... راح أختنك، كرر ذلك مرات ومرات، قبل يرفس ودون قصد، الميز بعيدا عن موقع القدم، ليغدو وبالفعل في وضع المشنوق.

بلئيم الصمت ونشوة عتاة أهل الجريمة، ظل الجميع يتابعون مشهد انتفاضات المشنوق من الجسد، قبل أن يتبدد الصمت لحظة أن تركوا عنان الوسخ من حناجرهم، تنطلق بترديد  الهمجي من صرخات الله، فيما كانت تتحشد على البشع من ملامحهم، آيات الحبور، استعدادا لوليمة المخزي من الفرح.   

من فرط التعب والإعياء، ما عاد بمقدوره بذل المزيد من عبث الجهد، لتحرير بائس العنق من قبضة الحبل أو مقاومة قذر فعل النذل من الربو . مستسلما أختار وقف انتفاضات المشنوق من الجسد. في تلك اللحظة، غمره شعور بالارتياح وصفاء الذهن، وعلى نحو لم يعهده من قبل قط.

سعيدا ظل يتابع بليد مشهدهم وهم يمارسون مسعور البزخ على وقع إيقاع نشيد الله يخللي الريس، أو هكذا تناهى لسمعه في الملتبس من تلك اللحظة، فيما كان ذهنه يسرح بعيدا مع مشروع قصيدة، كانت تطارده منذ أمد بعيد، ولا تكف عن مضاجعة خياله بين الحين والأخر، بمتعة من يمارس الجنس للمرة الأولى.


سمير سالم داود أيلول 2013

samirdawod@hotmail.com


طالع المزيد من نصوص العبد لله القصصية في :  www.novel.alhakeka.org